Translate


الخميس، سبتمبر 09، 2010

تأملات في رحلة نجيب محفوظ الفلسفية - حضرة المحترم نموذجاً -



د. رياض نعسان

تحكي رواية ـ حضرة المحترم ـ نضال " عثمان بيومي " الذي التحق موظفاً صغيراً في قسم المحفوظات في إحدى إدارات الدولة ، وقد نال شهادة ـ البكالوريا ـ معتمدا على نفسه بعد وفاة والديه الكادحين ، وهو يطمح منذ البداية لأن يصير مديراً عاماً للإدارة ، فينال إجازة في الحقوق ، وينهل من منابع الثقافة العامة ، ويوطد علاقاته برؤسائه من خلال الاجتهاد والاستقامة ويبدأ بالادخار استعدادا للزواج من فتاة تكون سبيله الى العلاء،ولكن الزمن يتسرب من خلال أصابعه ، وقد أعرض عن الزواج من اثنتين أحبهما في فترتين متباعدتين من حياته ، هما " سيدة " و " أنيسة " لأنهما لا تقدمان له ما يبغي من زواجه ،فإذا هو لا يجد عزاء إلا في وصاله الجسدي لقدريّة ـ البغي الغانية ـ ولقد أفسحت له الظروف مجال الترقي فصار مديراً للإدارة ، ولكنه في لحظة يأس وافتقار الى الحب الحقيقي تزوج من " قدرية " وحين أخفق معها تزوج ثانية من سكرتيرته ( راضية ) وفي اللحظة التي صمّم فيها على الإنجاب والتخلي عن حلمه بالدرجة العظيمة ومنصب المدير العام جاءه قرار تعيينه وهو على فراش المرض فقضى بلا حب دافئ ، وبلا ذرية ، ودون أن يباشر الحكم من إدارته .  

هذا ملخص الرواية على الصعيد الواقعي المباشر ، حيث تبدو قصة عادية عن إنسان شغله طموحه الفردي عن المشاركة الجماعية في بناء الحياة ، فاستغنى عن الحب الحقيقي في سبيل مجد وهمي ، فأوردته الدرب التي أخفق في أن ينجو منها إلى ـ راضية ـ وقد هدّته الكهولة .

أما على الصعيد التجريدي الفلسفي فلا أنكر أن تفسير الرواية شاق يتطلب من الناقد المزيد من الإمعان والتأمل ولذلك فإن ما سأقوله هو مجرد اجتهاد قد يكون الى الخطأ أقرب منه إلى الصواب . فعثمان البيومي ـ المنحدر ـ من أصل وضيع فقير هو ابن سائق " كارو " أمضى حياته في شظف العيش وقسوته ( يذكرنا ) منشؤه بعلي عويس في ( حكاية بلا بداية و نهاية ) ماتت أمه أيضا وهي تعمل .. حيث يستقي محفوظ فكرة ( شقاء الأبوين ) من المأساة الدينية ، كما وردت في الكتب السماوية ، فقد طرد الله آدم وحواء من الجنة ،وقذفهما الى الأرض كي يشقيا ، ولن يعودا الى النعيم إلا بالجهد والعرق ، وهذه المأساة يكررها محفوظ في أغلب رواياته ، وقد تبدت بشكلها التسجيلي عند أدهم وأميمة حين أغواهما إدريس ، فطردا في ، أولاد حارتنا . ولقد كان على عثمان بيومي أن يعرف لنفسه طريقا ولحياته هدفاً ، إنه ( منذ أن دخل الإدارة ـ موظفا ـ شغفه ( المثال ) القوي القادر القابع وراء المكتب الفخم ـ ودعاه نداء القوة للسجود ـ ولكنه سلك سلوك التقوى والابتهال والطاعة قال صاحب السعادة ـ المدير العام (حققوا المأمول منكم بالاجتهاد والاستقامة ) وعلى ضوء النار المقدسة ، لمح عثمان بيومي معنى الحياة ( أما على الأرض فقد قرر إلحاقه بالمحفوظات، هبط إلى قصره الجديد وجناحاه ترفرفان ) وكان يردد :( النهاية هي ما ينشده الإنسان ) .

- من هو هذا المدير العام ( الذي يحرك الإدارة كلها من وراء ( برافان) في نظام دقيق وتتابع كامل ، يذكّر الغافل بالنظام الفلكي وبحكمة السماوات ) ؟.

لقد سماه محفوظ (بهجت نور ) فماذا يوحي هذا الاسم ؟ ولقد قال عثمان بيومي عن درجة المدير العام إنها ( مقام مقدس في الطريق الإلهي اللا نهائي ) ونجد شخصية (بهجت نور) غير مطابقة لشخصية ـ جبلاوي ـ أو سيد سيد الرحيمي أو زعبلاوي ، فبهجت نور هو خليفة الله ، ومركزه هو الخلافة الحقة للألوهية في الأرض ، وهذا المفهوم يستقيه محفوظ( كما أحسب) من قوله تعالى ( إني جاعل في الأرض خليفة ) وهذا الهدف (خلافة الله في الأرض) هو الغاية التي ينشدها عثمان بيومي ( وهو يستلهم حكمته الأبدية التي قضت على الإنسان بالسقوط في الأرض ليرتفع بعرقه ودمه مرة أخرى الى السماء ) وهو في سبيل الوصول الى هذه الغاية لا يحفل بالسعادة ، وهو راض عن نفسه ( لاختيارها الطريق العسير المكلل ببركة الله ومجده العالي ) هذا المجد ( لا يتحقق الا في التخبط الواعي بين الخير والشر، ومقاومة الموت حتى اللحظة الأخيرة ) وقد ساق محفوظ حواراً صريحاً مباشراً لإضاءة الرمز في روايته حين قال حمزة السويفي مدير الإدارة لعثمان بيومي : -السعادة هي غاية الإنسان في هذه الحياة .

قال عثمان بازدراء باطني:

ـ لو كان الأمر كذلك لما سمح سبحانه بخروج أبينا من الجنة.

-إذن ما الهدف من الحياة في نظرك ؟

أجاب باعتزاز :الطريق المقدس .

- وما هو الطريق المقدس ؟

- هو طريق المجد، أو تحقيق الألوهية على الأرض .

فتساءل حمزة في دهشة:

- أتطمح حقا إلى سيادة الدنيا ؟

- ليس كذلك بالدقة ،ولكن في كل موضع يوجدمركزإلهي . وقد أدرك عثمان أن هذا المركز الإلهي ( مضنون به على غير أهله الأكفاء الذين يشترونه بمسرات الدنيا الرخيصة العابرة ) .

ـ ما الذي حدث لعثمان وهو يخطو فوق ذرا هذا الطريق المقدس ؟ وهل وصل إليه ؟ وكيف ؟ وماذا جنى ؟ هذا ما تجيبنا عنه أحداث الرواية .

في أول الطريق ، كان عثمان يلتقي بفتاته السمراء " سيدة " التي تشبه لون المساء المحتضر ، والتي نبتت معه في حارة ( الكارو، حارة الحسيني ) ومات أبوها في معركة تعد من الأمجاد التي تطيب بها ذاكرة الحارة ( إنه يحب هذه الفتاة كما تحبه ، ولا غنى له عنها ولكنه يخاف ، عليه أن يفكر ألف مرة وأن يراجع ورقة العمل المريرة ، وأن يتأمل الحياة التي تقف أمامه مرحبة ومتحدية معاً ) ورقة عمله التي جعلها شعار الحياة تنص في مادتها ـ الكامنة على أن يستفيد من الفرص المفيدة ، والزواج الموفق فيها هو الذي يمهد طريق التقدم ، وأما " سيدة " فهي لا توفر سوى الراحة والطمأنينة وسعادة البال ، وهذا غير ما يطلبه طريقه الشاق الممجد .

- من تكون ( سيدة ) هذه ؟ ولماذا كان يلقاها عند مشارف الصحراء حيث السبيل الأثري المهجور ؟ وماذا يعني أن زمالتهما القديمة في الحارة تمتد أصولها ( في الماضي البعيد حتى تتلاشى في منبع الحياة نفسه ) ؟.

أعتقد أن " سيدة " التي سوف تبقى حتى آخر الرواية سيدة قلبه ووجدانه ( والجوهرة الوحيدة في حياته ) هي رمز مكثف للدين ، الذي أصبح سبيلا أثريا مهجورا لا يملك أن يمنح سوى الطمأنينة وراحة النفس للمحب الصادق .

أخبرته أم حسني الخاطبة التي عنيت به كأم وكانت تجسيداً للبعد الزمني والتاريخي للحارة ـ أن ( سيدة ) تُخطب لترزي بلدي ( خيّاط كما نسميه نحن في الشام ) وهي تنتظر كلمة منه ولكن عثمان تخلى عن سيدة ( ورغم عذابه شعر بارتياح خفي يائس ، ورغم ارتياحه آمن بأن اللعنة حلت عليه ) .

تزوجت سيدة من الترزي البلدي( ولهذا مدلول معين ، حيث بقيت ـ سيدة ـ النعيم الروحي للبلد في شكلها القديم ) ولكنها أنكرت بعد ذلك عثمان الذي التقى بها بعد زواجها متخبطا في طريقه ، فحولت نظرها عنه في غير مبالاة ( فتجلى له معنى من معاني الموت كما خرج أبوه من الجنة بإرادته ، وكما يخوض العذاب بشموخ وكبرياء)

- لماذا تخلى عثمان عن سيدة ؟

إنه لم يكن يكره منها شيئا ولا ينكر فيها خلقاً ، ولكنه كان يخاف من السعادة بين يديها ( تلك السعادة التي تغريه بالتفكير في الانتحار .. أما الشقاء فهو الذي يحرضه على نشدان الحياة وعبادتها ) خاف ! إذا هو تزوجها ان يصير هدفه قريبا لهدف حمزة السويفي ـ أو أن يصير دينه سطحياً او إيمانه عفوياً ،وطريقه سهلة قصيرة . كطريق ( سعفان بسيوني ) رئيسه المباشر في قسم المحفوظات ـ الذي كان يلخص الحياة في كلمتين ـ استقبال ثم توديع ـ فيسخر منه عثمان في نفسه لأنه عاجز عن رؤية لا نهائية تلك الطريق ، فبسيوني في رأي عثمان لم يتعلم شيئاً من حكمته ، والعجيب أنه مثل كل أولئك الموظفين التعساء ، يستغرق في الشؤون السياسية والاجتماعية ، و يتساءل عثمان في إنكار ( ماذا يشدهم إليها ؟ أليس لديهم هموم صميمية تشغلهم عنها ؟).

ـ إنهم أناس لا يعرفون لأنفسهم هدفا محدداً وإيمانهم الديني إيمان سطحي ، لم يفكروا بما فيه الكفاية في معني الحياة ، ولا فيما خلقهم الله من أجله ) .

خرج " عثمان " من نعيم " سيدة " مختاراً بإرادته ، لينطلق متعثراً في دروب الشقاء ذاك ( الدرب الذي يضيئه مصباحان غازيان متباعدان يغلفهما الغبار ـ الراسخ فيغرق جنباته في شبه ظلام مثير للشهوات ) وإذن فقد ضلّ عثمان الطريق إلى ربه، ووجد نفسه في أحضان بغي تسمي نفسها قدريّة ( ورغم تدينه العميق علمته الشراب ، وكان قدح من نبيذ السلسلة الجهنمي يكفي لطمس عقله ، وبعث الجنون في دمه ، حتى قال لها مرة في نشوة مضحكة ـ أنت سيدة الكون ) .

ليس مصادفة أن يكون اسم هذه البغي " قدرية " وأن يهتف ـ عثمان ـ حين رنحته الشهوة ـ أنت(سيدة الكون) فقد عودنا نجيب محفوظ أن نتأمل الدلالة في أسماء كثيرين من شخوصه.

- أتكون " قدرية " قدره الأزلي في أن يشقى وأن يتخبط في الشر ؟ قال لنفسه بحزن :حتى أخطاء الإنسان يجب أن تكون مقدسة .

وتساءل مرة وهو في حجرتها البدائية العارية حيث الحشرات والجراثيم المستكينة ونبيذ السلسلة الجهنمي ( أليس هذا الركن الملعون المشتعل بنار الجحيم جزءاً من مملكة الله ؟) .

كانت ـ قدرية ـ غافلة عن الزمن تعيش بلا حب وبلا مجد ، كأنها تؤاخي الشيطان في غضبها، فكيف سيحقق ـ عثمان ـ حلمه المضني إذن ؟ وقد درجت الأيام فخسر (سيدة) ولم يبق له من عزاء سوى التردد على درب البغاء الرسمي حيث قدرية - الجحيم . لقد نال عثمان شهادة الإجازة في الحقوق ، وصار خبيراً بشؤون الميزانية وبقوانين الإدارة ، وبدأ يتحين الفرص للترقي .

وحين أحيل سعفان بسيوني ـ إلى المعاش ، تسلم عثمان منصبه في رئاسة قسم المحفوظات ، ولم يبق أمامه كي يرتقي إلى منصب وكيل مدير الإدارة ـ سوى أن ( يُرقّىحمزة السويفي أو أن يحال إلى المعاش أو أن …يموت ) هكذا كان يفكر عثمان يغرق في الإثم ، ويستجدي غفران ربه .

ولقد مرض ( حمزة السويفي ) فأحيل إلى المعاش ورقي ـ إسماعيل فائق - الى درجة مدير الإدارة وصار عثمان وكيل الإدارة ولم يبق إلا أن يموت إسماعيل كي يصبح عثمان مديراً ،وقد مات إسماعيل إثر نوبة … فحزن لأجله عثمان ولكن تفكيره بالدرجة طرد عنه الحزن ، لولا أنه بوغت بقرار تعيين ـ عبد الله وجدي ـ مديرا للإدارة نقلاً من وزارة المواصلات فحقد عثمان على صاحب السعادة (بهجت نور) ولكنه مع الأيام الطويلة بلغ مناه فقد رقي ـ بهجت نور ـ الى منصب وكيل الوزارة ، فخلت وظيفة المدير العام بعد عهد مديد ( هذه التفصيلات يعنى بها محفوظ لكي يمنح الرواية بعدها الواقعي وصدر قرار بترقية ـ عبد الله وجدي الى وظيفة المدير العام ووقعت المعجزة في غمضة عين .. فقد رقي عثمان إلى منصب مدير الإدارة ، وهكذا لم يعد يفصل بينه وبين المدير العام فاصل من الكادر ( إن هي إلا وثبة أخيرة ينبغي أن يستجمع لها قواه ـ فيصير حاكم الإدارة ويعلي شأن الله في الأرض ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق