Translate


الأربعاء، سبتمبر 15، 2010

المعارضة نصف الحق .. وإن لم تكن حقاً !







د.حسن يوسف الشريف



الاختلاف بين الناس فى الفهم والفكر والسلوك له أسباب كثيرة، ليس هذا محل شرحها، ولكن الحقيقة التى يجب أن نؤمن بها هى أن الاختلاف فى الرأى بين الناس أمر طبيعى، ولكن الغير طبيعى هو احتكار الرأى وعدم السماح بظهور أى رأى آخر يعارضه، وتسفيه الرأى الآخر وتحقيره، بل وعقاب صاحبه، ثم رفض الحوار مع الرأى الآخر، ورفض سماع أدلته وبراهينه، مع تسليط وسائل الإعلام والتى يسيطر عليها محتكرو السلطة والرأى من أجل إحكام “صناعة توجيه العقول” لكى يتبنى الرأى العام الرأى الذى تفرضه السلطة، وليس من صالح أى أمة أن يقوم نظامها الحاكم باحتكار الرأى ومصادرة الرأى الآخر، واستخدام وسائل القهر الأمنية ووسائل التضليل الإعلامية لمحاربة الرأى الأخر، والتضييق على أصحابه وإلصاق التهم بهم، ومصادرة حريتهم المعنوية والمادية، وهذا ما تفعله النظم الاستبدادية، والتى تحرص وبكل الوسائل غير المشروعة مثل مصادرة حقوق أصحاب الرأى الآخر السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وحتى تزوير العملية الانتخابية بدءاً من تسجيل الأسماء وحتى مرحلة فرز الأصوات، كل هذا من أجل محو الصوت الآخر والرأى الآخر وإسكاته عن النطق بالرأى الآخر، ولو تطلب الأمر استخدام التصفية الجسدية.



ولا شك أن انتشار مصادرة الحريات واستخدام التضليل والقهر فى أى بيئة اجتماعية إنما يعمل على قتل الإبداع والمبدعين، وهجرة هذه العقول إلى حيث توجد بيئة الحرية التى ينبت فيها ويترعرع الإبداع والابتكار.



إن شيوع بيئة الحرية التى تقبل الرأى والرأى الآخر، والجميع فيها له حقوق متساوية فى السياسة وفى الإعلام وفى المجتمع، ولا فرق فى الحقوق والواجبات بين حزب حاكم أو معارض، فالكل أبناء الوطن ويعمل لمصلحة الوطن، أما فى بيئة الاستبداد فأتباع الحزب الحاكم هم يمتلكون كل شىء، ويمنع عن الآخرين كل شىء، أتباع الحزب الحاكم هم البرآء وأصحاب النية الطيبة، أما المعارضة فهم المتهمون أصحاب النيات الشريرة، لا تتاح لهم فرص إدارة المؤسسات حتى وإن كانوا فى قمة الكفاءة ويحملون أرفع الدرجات العلمية، وكل هذه السلوكيات تساهم فى تدمير البنى الأخلاقية للمجتمع؛ فيشيع الكذب وطمس الحقائق ويكثر الظلم، والاجتهاد فى استغلال السلطة فى جمع الثروة وينتشر الفساد الادارى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى، وكأنه عملية تدمير منظم لهذا المجتمع الذى يقوده الاستبداد السياسى .



إن أديان السماء قد أعطتنا درساً بليغاً فى التسامح مع المعارضة، بل والحفاظ عليها فالمسيحية التى جاء بها المسيح لم تطارد وتقتل أو تدمر المعابد اليهودية، بل جاءت بتعاليم من آمن بها فهو مسيحى، ومن رفضها من اليهود فهو حر فى اختياره، وعليه أن يتحمل حساب الله له يوم القيامة على رفضه لرسالة المسيح عليه السلام، ولما جاء الإسلام لم يطارد أتباع الديانات الأخرى، أو يهدم معابدهم، ففى ظل الإسلام ظلت الديانات الأخرى وأتباعها ومعابدها يهوداً أو نصارى لهم حقوقهم كاملة غير منقوصة، بل لهم كما تقول القاعدة الفقهية “لهم ما لنا وعليهم ما علينا”.



ولقد تبرأ الإسلام ونبيه من كل مؤمن يؤذى أحداً من أهل الكتاب بغير حق “من آذى ذميا فأنا خصيمه يوم القيامة”.



وهناك دروس نستفيدها من فلسفة الإسلام فى وجود المعارضة:



1 – إن العقل يؤمن بأنه لا ثقة في رأي إلا بعد تمحيصه ونقده، وأن النقد الحقيقي للرأى ليس هو الذى يأتى من أنصاره ومعتنقيه، وإنما هو النقد الذى يأتى من المعارضين له والمنكرين عليه، ومن يحرص على النجاح يستفيد من قول خصومه فيه.



2 – إن المعارضة تعتبر نصف الحق، وإن لم تكن حقاً؛ لأنها تبين الحق وتجلوه وتقطع الألسنة وتنفى عنه الظنة.



3 – وقد يستغرب بعض الناس من إنفراد القرآن من دون الكتب السماوية والأرضية؛ حيث انفرد وتحدى الخلق جميعاً، وأثبت هذا التحدي فى أكثر من موضع فيه، بل وتحداهم تحدياً قوياً واتهمهم بالعجز إذا لم يقبلوا التحدي، وذلك بأن يأتوا ولو بسورة منه على نفس نسقه من الإعجاز، ويعلق (الرافعي) على هذا قائلاً عن هذا المسلك القرآني: “وبذلك قرر أسمى قواعد الحق الإنساني، ووضع الأساس الدستوري الحر لإيجاد المعارضة، وحمايتها وأقام البرهان لمن آمنوا على من كفروا، وكان العجز عنه حجة دامغة، معها من القوة كالذي مع الحجة الأخرى في إعجازه، فسما بالحجتين معاً، وذلك هو المبدأ الذي لا استقلال ولا حرية بغيره، وما الصواب إذا حققت إلا الانتصار في معركة الآراء، ولا الخطأ إلا اندحاره فيها لا أقل ولا أكثر، وبهذا وحده يقوم الميزان العقلي في هذه الإنسانية” .



4 – الحجة الصحيحة في حاجة إلى حجة أخرى من الرأي الآخر المعارض تؤيدها أو تفسرها أو تحدها، أو تمنع اللبس بينها وبين غيرها.



وهو كما يقول الرافعي :“كل شيء فإنما صحته وتمامه في معارضته ونقده” ، ومن أجل هذه الحكم وغيرها؛ فإن وجود المعارضة أمر طبيعى، ومن حقها أن تعرض رأيها، ولكن ليس من حقها ولا حق غيرها أن تفرض رأيها على غيرها.



ويرى البعض أن كلمة “معارضة” فيها شيء من الجفاء والجفاف في المعنى، ويفضل كلمة “مناصحة”، ولكن المهم هو أن نتفق على أنه في عصرنا، والذي لا يوجد به أنبياء معصومون، لا يوجد أحد فوق النصيحة والنقد، وأي حزب أو جماعة أو نظام يضيق ذرعاً بالنصيحة والنقد والمعارضة ويحاول تهميشها أو إلغاءها فهو يجني على نفسه قبل أن يجنى على المعارضة، لأن مسلك التضييق على المعارضة أو المناصحة إذا سلكه أي حزب هو سبيل لانفضاض الواعين من أنصاره عنه، وفقد ثقتهم فيه وانحساره ثم اندحاره في النهاية.



وفي الثقافة الإسلامية روى التاريخ الإسلامي كيف اشتركت المرأة في تفعيل هذه الوسائل؛ لأنها تعلمت من القرآن أن هذه الوسائل التي تساهم في إصلاح المجتمع هو خطاب موجّه للمرأة كما للرجل لقوله تعالى :{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .



ونحن لا ننكر إيجابيات الديمقراطية كثمرة من ثمار الحضارة الغربية المعاصرة، ولكن لا ننسى أن الحضارة المعاصرة هي حضارة مادية مخاصمة للثقافة الروحية والأخلاقية فى الكتب السماوية، فلابد أن تكون مواليد أو ثمار هذه الحضارة على نفس النسق، وهذا ما يؤكده مؤرخ تيارات الفكر الحديث فى الغرب وهو مفكر أمريكي مرموق يدعى (كرين برينتون) حيث قال :“إن أحد العناصر الهامة للغاية في الديمقراطية هو إنكارها للغيبيات والحياة الأخرى، وكذلك العلمانية الغربية هي على نفس النسق.



فالديمقراطية وأخواتها (الرأسمالية والعلمانية..) حينما تجحد وحي السماء فهي بالطبع ستعارض القيم الأخلاقية، وإذا خلت المعارضة من القيم الأخلاقية فسوف تؤدي إلى فساد إن لم يكن في الغاية فسيكون في الوسيلة؛ فالغاية تبرر الوسيلة في عرف الديمقراطية العلمانية المتشائمة، أما الشورى الإسلامية أو الديمقراطية المتفائلة كما يسميها (كرين برينتون) فهي تشترط طهارة الوسيلة وطهارة الغاية معاً.



فالديمقراطية المتفائلة (المؤمنة بالقيامة) وحقوق الإنسان والحرية والعدالة في جوانبها التي لا تصطدم بالأديان هى ثقافة إسلامية، حثَّ عليها الإسلام، وهي حقوق يجب على أفراد المجتمع تفعيلها وتصحيح أوضاعها وتقويتها، سواءً سمينا ذلك نصيحة أو معارضة أو نقداً أو رفع مظلمة أو غير ذلك.



إنّ الثقافة الإسلامية تدعو كل المجتمع إلى المشاركة في الإصلاح والتغيير نحو الأحسن؛ وذلك لتقديم النصح أو النقد سواء للأعمال أو الأشخاص المسئولين عنها، وإن كان المسئول هو قمة السلطة، وعلى الناصح أن يتحلى بالصبر على ما يصيبه بسبب أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} ، وأن السلطة لو حكمت بالقتل على هذا الناصح أو الآمر الناهي بسبب قيامه بهذا العمل فيعتبر هذا الإنسان من الشهداء في سبيل الله لا يقل أجره عن الاستشهاد في القتال ضد أعداء الأمة حيث جاء فى الحديث “سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه؛ فقتله” .



ووضع فقهاء الإسلام شروطا للمعارضة أو النصيحة أو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ذكرها الإمام ابن تيمية حين قال:”يحتاج الآمر الناهى إلى ثلاث: علم قبل الأمر أو النهى ورفق مع الأمر أو النهى وصبر بعد الأمر أو النهى ” فهى معارضة تبنى على علم لا على ظن أو إشاعة وعلى أدلة وبراهين تثبت صحة ما يطالب به .



لقد شاع فى الثقافة الإسلامية فقه”الحسبة” أو “الاحتساب”، وفيه يوجب على أفراد المجتمع أنه إذا رأى أحدهم أو بعضهم خطأ أو منكراً ظهر فعله، أو معروفاً ظهر تركه، أو ظلماً وقع من شخص أو فئة على شخص أو فئة، فالواجب عليه التنبيه على هذه المخالفات الشرعية من أجل تصحيح الأوضاع وعلاج السلبيات من أى جهة جاءت أو من أى مستوى.



و”ديوان المظالم” فى الفقه الاسلامى يتيح لكل صاحب مظلمة أن يتقدم بها حتى وإن كانت ضد رأس هرم السلطة؛ فها هو القبطى (المصرى) يشكو حاكم مصر (عمرو بن العاص) إلى خليفة المسلمين (عمر بن الخطاب)، وقال عمر رضى الله عنه قولته المشهورة :”متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً”، وأمثال هذه المواقف كثيرة.



إن المعارضة وإن شئت سمها التناصح قد تتجه إلى رأس السلطة بالنصح، أو أعوانه، أو طوائف المجتمع أو آحاده، ولكن مع طهارة القصد وعفة اللسان، فلا يكن القصد فضح المنصوح أو إذلاله أو إحراجه، ولا تحويل المجتمع إلى طوائف متحاربة تتسبب فى إضعاف الدولة.



ولا يسعى الناصح بهذا إلى البحث عن الشهرة؛ ليتحدث الناس عن جرأته وشجاعته، أو ليكسب ثناء الناس ومدحهم له، بل القصد المصلحة العليا للوطن، ومصالح المواطنين، وإحقاق كل ما هو حق وتقويته، وإبطال كل ما هو باطل وظلم وإضعافه، دون النظر إلى مغنم أو مغرم، فالعمل على إصلاح وتقوية وتطهير المجتمع الإنسانى هو واجب شرعى قبل أن يكون واجباً أخلاقياً وإنسانياً يميز مجتمعات الإنسان عن تجمعات الحيوان.



هذه هى فلسفة المعارضة فى الإسلام، وحكمته مِن جعل كل مؤمن فى المجتمع المؤمن داعياً إلى الخير معارضاً للشر، ولكن يسبق هذا العمل ويعقبه ولاء بعضهم البعض، أى حب بعضهم لبعض لقوله تعالى: ” وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ …” ، وبوسيلة تتسم بالحكمة، وهى حسن الخطو نحو تحقيق الهدف، مع الأسلوب المؤثر لا المنفر، والحوار المهذب لا الطائش، كما قال تعال: “ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ..” .



هذه هى آداب ووسائل المعارضة فى الإسلام، فالمعارضة وسيلة من وسائل تنمية وتقوية وتصحيح مسيرة الخير للمجتمع “ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون” ، سواء كانت فى صورة حزب أو جماعة ولا تنس هذه الجماعة أو الحزب –إن كانت صادقة فى الإصلاح- أن تُلزم أفرادها بأدبين، الأول: داخلى، وهو الإنكار على كل فرد منها إذا خالف الآداب أو الضوابط فى أداء هذه الوظيفة الدعوية، والثانى: خارجى، وهو أن يقبلوا كل نصحٍ مصحوبٍ بالدليل إذا جاء من خارجهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق