Translate


الجمعة، سبتمبر 24، 2010

دراســـارات: البعد الحضاري في روايات عبد الرحمن منيف




د. فرحان اليحيى* إن إشكالية العلاقة بين الغرب المتحضر والشرق المتخلف ليست جديدة في أدبنا المعاصر، فقد ظهرت بكثافة في كتابات الأدباء، منذ القرن التاسع عشر، نذكر منها، على سبيل المثال: «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» لرفاعة الطهطاوي (1834)، و«عصفور الشرق» لتوفيق الحكيم (1938)، و«الحي اللاتيني» لسهيل إدريس (1954)، و«موسم الهجرة الى الشمال» لطيب صالح (1966)، وغيرهم كثيرون على صعيد الإبداع الروائي.
وإن صورة العلاقة في هذه الآثار، ليست من نمط واحد، بل اتخذت انماطاً ذات أبعاد متعددة، حسب السياقات التاريخية والمنابع الفكرية والثقافية والسياسية المتضاربة، وهذا ما نجد أشباهاً له ونظائر في الآداب الإنسانية كلّها.

وقد طرح الكاتب عبد الرحمن منيف هذه الإشكالية في العديد من رواياته.. ففي رواية، «الأشجار واغتيال مرزوق» (1973)، يدين الشرق، وينوه بالغرب الديمقراطي من خلال شخصية منصور عبد السلام ـ الأستاذ الجامعي، الذي توقف عن التدريس، بسب مواقفه السياسية المعارضة، فاضطر الى العمل مترجماً في بعثة الآثار الفرنسية، وتعرف على فتاة مجرية، اسمها كاترين، كانت تعمل في البعثة، يخاطبها: «والملوك عندنا يا كاترين لا يشبهون ملوككم أبداً، كل رجل عندنا ملك، والممالك صغيرة لدرجة أنها متجاورة ومتراصة مثل مراحيض المقاهي والفنادق...» (ص248).
ثم يمعن في تصوير اضطهاد الحاكم لشعبه: «كاترين لا تغضبي، فأنا لا أقول سوى الحقيقة، وهذا الملك الذي أتحدث عنه قاسٍ حتى إن الشرر يتطاير من عينيه دائماً، وكل يوم يقتل مئات من الناس، يقطع أيديهم ورؤوسهم ويجلدهم في الميدان الكبير، ويسرق كل قمحة تنبت في أي شبرٍ من الأرض، ويلقي للناس بالفتات، والناس يهزون رؤوسهم شكراً واعترافاً بالجميل» (ص249).
ويعتقد أن اللقاء بين الشرق والغرب مستحيل، ولذلك يرفض الارتباط بصديقته البلجيكية والعودة بها الى موطنه لقناعته بعدم تكيفها مع المجتمع الشرقي المختلف والمناقض تماماً للبيئة الغربية المتطورة، كما يتضح من الحوار التالي: «كاترين!.. نحن عالمان، التقيا صدفة.. وبعد قليل سوف نفترق.. لأننا من عالمين مختلفين التقينا في نقطة، ولكن كل عالم منا سيواصل رحلته الى آخر الحياة دون أن نلتقي مرة أخرى» (247)، ثم يسخر من أعمال بعثة الآثار وهي تنقب عن الألواح المسمارية ومظاهر الحضارة البابلية، لأن تلك الحضارة قمعية قامت على جماجم الشعوب، فهي تاريخ أفراد، ومعرفته بهذا التاريخ في نظره ـ لا تقدم ولا تؤخر شيئاً بالنسبة للإنسان: «وأنت يا مسيو «دونال»، هل وصلت إلى الموقع؟ هل حضرت كل شيء لاستقبال الرجال الذين سيبحثون عن ألواح الطين؟ وإذا وجدناها يا مسيو «دونال»، ماذا سنفعل بها؟ لنعرف التاريخ القديم بشكل أفضل؟ وإذا عرفناه هل يتغير شيء في حياة الناس الذين يعيشون الآن؟! إن ما نفكر به مجرد عبث أخرق» (ص189).
إنه ينظر إلى تلك الحضارات القديمة من زاوية أيديولوجية اشتراكية، وهي حصيلة قراءات منيف في الفكر الماركسي. والحقيقة إنه لم يضف إلى الكتّاب الذين سبقوه في هذا الموضوع شيئاً سوى التشاؤم والطرح الحاد.
وفي قصة «حب مجوسية» يطرح منيف العلاقة بين حضارة الشرق، وحضارة الغرب طرحاً ضمنياً مقتصراً على الأبعاد الوجودية، وكأنه يشيد بالإمكانات المتوافرة في فضاء الغرب الملائم لاكتشاف الذات الإنسانية، وإن بطل الرواية المجرد من الاسم واللقب، يكتشف من خلال علاقته بـ «ليليان» اغترابه عن العالم، ليس بسبب التباين الثقافي والحضاري والروحي، وإنما كان ناتجاً عن التأثر بالفكر الوجودي كما يتجلى في الاقتباس التالي: «لو قلت لكم إن حياة البشر تشبه خطوط السكك الحديدية، فهل تفهمون ما عنيته؟ منذ البداية نفتقد اللغة المشتركة، ليس بيننا شيء مشترك، ليس لديكم تجاهي حتى الرغبة في أن تفهموا...! لا يهمني، بدأت الرحلة وحيداً وسأنتهي وحيداً» (ص48) وما يزيد هذا الاحساس بالاغتراب قوةً، أن البطل يكتشف في نهاية الرواية عبثية الحياة ذاتها، فقد ظل يبحث عن ليليان مدة طويلة، ولكنه لم يستطع أن يجدها إلا في محطة القطار، وهي تهمّ بركوب قطار غير القطار الذي يستعد لركوبه.
أما في رواية «شرق المتوسط» فهو مبهور بحضارة الغرب، بوصفها المأمن والمنقذ للهاربين من سجون الشرق وإرهابها، وعندما سافر إلى فرنسا للعلاج من الأمراض والعاهات التي أصابته جرّاء التعذيب على أيدي الجلادين، ونزل في مرسيليا ثم انتقل إلى باريس، عبّر عن ولعه بمظاهر الحضارة وحرية الفكر وحقوق المواطنة، وحقوق الإنسان، متذكراً صورة «شرق المتوسط» الممتهن لكرامة الإنسان، ولكنه في النهاية يقرر العودة إلى الشرق، مبرزاً التناقض الصارخ الذي يسود حضارة الغرب، عندما يحاور طبيبه «فالي» مذكراً إياه بـ: «باريس المشانق والمقاصل والحصاد»، ‏ ويرى أن الشرق والحرية ضدان لايجتمعان، ولهذا نجد البطل يستحث السفينة اليونانية الدالة الاسم «أسخيلوس» للوصول بجسده الى الغرب، حيث يلتقي برومثيوس العربي بروحه الليبرالي، المقيم على ضفة غرب المتوسط! «أسخيلوس أنت سفينة الحرية، سفينة لها مئة باب. لاترجعي، اقفزي دائما الى الامام، ويلٌ لك اذا أمسكوا بك يوما». هذا التماهي مع السفينة المنطلقة من اليونان أصلا والمنتهية الى الغرب حكماً: «احذري يا أسخيلوس إن عدت يوما الى الشاطىء الشرقي، سيجدون لك سرداباً أصغر من القبر».
وإذا كانت العلاقة بين حضارة الغرب والشرق في روايات منيف السابقة غير متكافئة، لأن المغلوب مفتتن بحضارة الغالب الموسومة بالديمقراطية والليبرالية.. ومع ذلك فالشرق شرق والغرب غرب في منظور الكاتب.
أما في الروايات اللاحقة التي تبدأ برواية «سباق المسافات الطويلة»، وتنتهي بـ «أرض السواد» فإنها صورة مختلفة تماما.
ـ في «سباق المسافات الطويلة» تبدو الحضارة الغربية في أعلى مراحلها الاستعمارية، استغلالاً وهيمنة واستعلاء واحتقاراً للشرق، وذلك من خلال «بيتر» عميل الاستخبارات البريطانية الذي يتظاهر بالمستشرق، كي يرعى مصالح بلده في إيران، مستفيداً من الاضطرابات الداخلية في ظل حكومة «محمد مصدق»، ويسجل ذلك في يومياته على النحو التالي «إن تحركنا لتحريض الأطراف ضد بعضها يمكن ان يؤدي الى نتائج ايجابية مهمة وسريعة». ص (109)
وهذا التحريض ما كان يتم إلا بوساطة الاغتيالات السياسية التي تعمق هذه الخلافات بين الاطراف المتنازعة، ثم يسجل انطباعاته السلبية عن سكان الشرق وطبائعهم وعاداتهم وطرق معيشتهم وانغماسهم في الاوهام» ص76، إن «بيتر» يسخر من كل شيء في الشرق حتى من الحيوانات: «فهي حيوانات شرقية، كسولة، بليدة.. يقف الحمار ساعات طويلة تحت الشمس المحرقة ولايتحرك» ص128. هذه الرواية تصور لؤم الغرب الامبريالي الذي يغزو الشرق في داره، ويجعله مجالاً حيوياً له، الى جانب ذلك انه يسخر من نمطه الحضاري ومن ثقافته في تعالٍ وغطرسة مقيتة، وتجب الاشارة الى ان أميركا في هذه الرواية أزاحت انكلترا عن طريقها، وسيطرت على المنطقة كُلياً.
وفي رواية (مدن الملح)، يظهر الغزو الحضاري العالمي ممثلا بأميركا، بكل ثقله، حيث تحل شركة نفطية أميركية بوادي العيون، منقّبة عن النفط، فتغيّر معالم المنطقة جغرافياً وسكانياً وحضارياً وثقافياً، تشرّد بعضهم، وتتخذ من بعضهم الآخر عبيداً، يقومون بالأعمال الشاقة، وبمرور الزمن تستطيع هذه الشركة ان تمارس تأثيراً قوياً في المجتمع على المستوى الثقافي والسياسي، وذلك من خلال المستشرق الانكليزي «هاملتون»، الذي كان يخطط للإطاحة بأنظمة حكم، كما فعل مع السلطان «خزعل» ويضع من يريد لاستلام السلطة، مثلما فعل مع الامير «فنر» ويرسم الخريطة السياسية في «حران» و «موران».
أما في «أرض السواد» فهي أكثر رواياته خصوصية وتميزاً، لأنها تجعل من الشكل الروائي، تاريخاً آخر ولأنها تجعل من المكان ساحة لصراع الحضارات والثقافات، فإذا كانت الروايات السابقة التي كتبها منيف تصور العلاقة بين الحضارات في أنماط مختلفة تتأرجح بين التوافق والشك والاستعلاء والتفوق، فإن رواية «أرض السواد» تجسد الصدام الحضاري بين الغرب والشرق في أبرز تجلياته، من خلال الصراع بين «داود باشا» والي بغداد، الطامح الى بناء عراق قوي في وجه الاطماع والتحديات، هذا الذي يحمل رأساً مستنيراً تحت الطربوش العثماني الفارغ، وبين القنصل الانكليزي ريتش ممثل الامبراطورية الكبرى في الربع الاول من القرن التاسع عشر أو يزيد ـ العلاقة بين هاتين الشخصيتين تتخذ طابع الندية ولاسيما من قبل المصلح «داود» والمتأثر بنموذج محمد علي حاكم مصر، وطموح نابليون. أما موقف ريتش المزهو بحضارة الغرب، والمثقف بعلم الآثار، والمجيد للغات العربية والتركية والفارسية، والذي ينظر الى حضارة الشرق نظرة استصغار، وفي الآن نفسه كان معجباً بآثار الحضارات الشرقية القديمة التي تزخر بها العراق، فإذا كان عبد الرحمن منيف يقلل من قيمة الحضارة الشرقية والآثار الشاهدة عليها في «الاشجار واغتيال مرزوق»، فإنه في «أرض السواد» يصف تهافت الانكليز والفرنسيين على هذه المعالم، ويثمنها عاليا من خلال «انبهار «ماري» زوجة القنصل الانكليزي «ريتش» بلوحة: العربة الملكية «لسرجون» وهي رمز للقوة والمهابة بالنسبة الى ماري التي كانت تتساءل عن جبروت هؤلاء الملوك البابليين..
هذا التطور الذي طرأ على رؤية الشخصية للحضارات القديمة في روايات منيف تعبير واضح عن مدى تغيّر الموقف الواضح تجاه هذه الحضارات، وكأن عبد الرحمن منيف يريد ان يقول: إن عندنا ما يضاهي حضارة الغرب. كما أنه اكتشف الوجه الآخر القاتم للغرب الامبريالي، وطبيعته العدوانية.


المصادر: عبد الرحمن منيف: ‏



1 ـ  الأشجار واغتيال مرزوق، بيروت، 1973.

2 ـ  قصة حب مجوسية، ط5، بيروت: المؤسسة العربية، 1990.

3 ـ  شرق المتوسط، ط9، بيروت: المؤسسة العربية، 1993.

4 ـ  سباق المسافات الطويلة، ط6، بيروت، المؤسسة العربية، 1995.

5 ـ  مدن الملح، ط1، بيروت، المؤسسة العربية، 5ج، 1984 ـ 1989.

6 ـ  أرض السواد، ط1، بيروت: المؤسسة العربية، 3ج، 1999.

7 ـ  الكاتب والمنفى، ط1، بيروت، المؤسسة العربية، 1992.

* عن تشرين السورية
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق