Translate


السبت، سبتمبر 25، 2010

تعاريف للقصّة القصيرة




بقلم الكاتب: محمّد محيي الدّين مينو





تختلف القصّة القصيرة في الحجم عن الرّواية والأقصوصة / القصّة القصيرة جداً، ولكنّها لا تكاد تختلف عنهما في عناصر البناء الفنّي ووسائله، لأنّ هذه الأنواع الثّلاثة في مجملها سرد حكائيّ. وقد ظلّت القصّة القصيرة عصيّة على التعريف، لأنّ علاقتها حميميّة أيضاً بمختلف أشكال هذا السّرد الحكائيّ الأخرى كالأسطورة والخرافة والحكاية، حتّى اختلف من عايشها على تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً. وهنا سنعرض ما وجدناه من محاولات لتعريف القصّة القصيرة قبيل أن نخلص إلى محاولة جديدة لتعريف هذا الفنّ الحكائيّ:
- يقول الفرنسيّ رينيه غودين Rene Godenne في موضع: إنّ القصّة هي أساساً تعبير عن حكاية، ويقول في موضع آخر: هي أحدوثة (1)
- يقول الدكتور الطّاهر أحمد مكّي: إنّ القصّة حكاية أدبيّة، تدرك لتقصّ، قصيرة نسبياً ذات خطّة بسيطة وحدث محدّد حول جانب من الحياة، لا في واقعها العاديّ والمنطقيّ، وإنّما طبقاً لنظرة مثاليّة ورمزيّة، لا تنمّي أحداثاً وبيئاتٍ وشخوصاً، وإنّما توجز في لحظة واحدة حدثاً ذا معنى كبير.(2).
- يؤكّد والبول Walpole أنّ القصّة لا تكون قصّة إلا إذا كانت سجلاً لأمور مملوءة بالأحداث وبحركات متتابعة وبتدرّج غير متوقّع، يقود إلى الذروة خلال عمليّة التّشويق (3).
- يقول روبرت شولز Robert Scholes: القصّة هي حكاية مختلقة (4).
- يقول الأمريكي ولسن ثورنلي Wilson Thornley: هي سلسلة من المشاهد الموصوفة التي تنشأ خلالها حالة مسبّبة، تتطلب شخصيّة حاسمة ذات صفة مسيطرة، تحاول أن تحلّ نوعاً من المشكلة من خلال بعض الأحداث التي ترى أنّها الأفضل لتحقيق الغرض، وتتعرّض الأحداث لبعض العوائق والتَّصعيدات، حتى تصل إلى نتيجة (5).
- يقول إدوارد فورستر Edouard Forster: القصّة سرد للحوادث مرتّبةً تبعاً لتسلسل زمنيّ (6).

ومهما يكن من أمر هذا الاختلاف في التّعاريف، فإنّ مفهوم القصّة القصيرة في مخيّلة المتلقّي صار واضح الملامح والقسمات، لا لبسَ في جنسه، ولا اضطراب في عناصره الفنّيّة. والقصّة القصيرة الجديدة خرجت على أي محاولة للتّعريف، وحاولت أن تتمرّد على تلك العناصر التي لم تكن في يوم من الأيام أقفاصاً، تسلبها كثيراً من حريّتها ومن سحرها وروائها .. وهي فنّ لَدِن، لا ينظمه شكل أو أشكال محددة، ولا يمكن أن يحدّه تعريف، ولا أن يقسِره قيد، لأنّ الحياة نفسها بلا تعاريف ولا قيود، والقصّة هي الحياة أو صورة من صورها، تعكسها مرآة الفن غير المستوية، قال روبرت شولز Robert Scholes: إنّ كسر الحقيقة بطريقة هادفة وسارّة هو عمل كاتب القصّة.. وإذا كان للقصّة وجود حقيقيّ، فإنّ تجربتنا معها غير حقيقيّة(7).
هي باختصار حكاية قصيرة النَّفَس، تتّجه من فورها إلى حدث من أحداث الحياة، فلا تحتمل الاستطراد في السّرد ولا الإسهاب في الحوار، ولا يتحقّق لها التّأثير Effect الشّامل إلا إذا توافرت فيها وحدة الفعل والزّمان والمكان، وهو ما عبّر عنه الكاتب الأمريكيّ أدغار ألن بو Edgar Allan Poe 1809-1853 بوحدة الانطباع Unity of impression، وعدّها خصيصة أساسية من خصائصها، ولما كان زمانها قصيراً ومكانها محدوداً، تقيّدت حركة شخصيّاتها، وضعفت ردود أفعالهم، وبَهِتت ملامحهم. ولعلّ هذا هو الذي جعل القصّة القصيرة تجيب عن سؤال واحد وحقيقة واحدة لا عن أسئلة وحقائق متعدّدة كالرواية، فالقاصّ ينظر إلى الحياة نظرةً أحادية الجانب على عكس الرّوائيّ، ويلتقط منها حدثاً خصب الدّلالات محدّد الشّخوص، ثمّ يحاول أن يجعل منه موقفاً فنّيّاً، يؤدّي إلى توضيح حقيقة من الحقائق بأسرع الطّرق وأبلغها، ولا سيّما التّكثيف والاقتصاد والبلاغة.. وقد تدور القصّة القصيرة حول فكرة أو مشهد أو حالة نفسيّة أو لمحة محدّدة من ملامح الحياة الجيّاشة. ولا بدّ لهذا الكاتب أن يكون شديد الصلة بالحياة وحقائقها، خبيراً بالواقع وأحداثه، متمكّناً من اللغة وأساليبها. ومن هنا تهيّب بعض الكتّاب هذا الفنّ، وعملوا على تجويده وتنقيحه مرّات، حتّى بلغت لدى وليد إخلاصي مثلاً ثلاثاً ولدى زكريّا تامر عشراً، وربّما بلغت سنواتٍ، وهذا ناثانيال هوثورن Nathaniel Hawthorn - وهو أول كاتب قصّة قصيرة أمريكيّ - يعكف اثني عشر عاماً على كتابة مجموعته القصصيّة الأولى.‏

ولما أخذت القصّة القصيرة ملامحها الخاصّة، وصارت عملاً فنّيّاً صِرْفاً، يتطلب جهوداً مضنيةً، فإنّنا نجد أنّ هناك نقّاداً، انصرفوا إلى دراستها ووضع أسسها ومبادئها. وأول من حاول في وقت مبكّر أن يقنّن القصّة القصيرة كفنّ يخلف الرّواية في بنائه وشكله وهدفه هو بو Poe الذي مارس كتابة قصص تستهدف الفنّ القصصيّ في ذاته ومتعة الإثارة الدّراميّة (8) التي يمكن أن يحدثها هذا الفنّ، فيهزّ ركود الحياة، ويؤدّي فيها عنصر المفاجأة والتشويق وإثارة الفزع والشّفقة دوراً أساسياً.. وأدرك أنّها لا تتحمّل اللّغو الكثير والحشو والتّفصيلات المتعدّدة، وعرف كذلك أنّها تعتمد على خلق الجوّ ببضع كلمات لا بصفحات مطوّلة، ثم ما لبث أن وضع لهذا الفنّ قواعد ومقاييس وقيوداً (9).

وللقصّة القصيرة قدرةٌ خاصة على التّشكل في مختلف الأشكال القصصيّة التي تحتفظ من جهةٍ بجذورها المتشعّبة كالمقامة والنّادرة والخرافة والسّيرة.. أو التي تطرأ على بنائها اللَّدِن من جهةٍ أخرى، فتكسر وتيرة السّرد تارةً، أو تتلاعب بمستوياته تارةً أخرى، ومن هذه الأشكال الجديدة: قصص اليوميّات، والتّداعيّات، والمونولوج، وقصص الأحلام، والوثائق، والكوابيس.. وهذه الأشكال كلّها لا تلتزم بالمألوف في البناء التّقليديّ من بداية وعقدة وحلّ، بل أصبح البناء يتكوّن من بنى جزئيّة متراصّة البنية الشّموليّة، فأصبح الحدث لا يتمركز حول نقطة ما في نسيج القصّة، بل تتبعثر دلالته في البنى الجزئيّة للقصّة (10) ، وبالتّالي تكوّن هذه البنى بناءً كلياً جديداً، يقول ما يقوله أيّ بناء آخر، ويوحي بما يوحي به، فلم تعد القصّة القصيرة سرداً مباشراً أو تكوينَ عقدة ومحاولة الخلاص منها، بل سادت ظاهرة التّفتّت، فصارت القصّة لحظاتٍ مكثّفة ودفقاتٍ قصصيّة متواليةً، تتراصّ في وحدة متماسكة، لتبرز في عالمنا إيحاءاتٍ فنّيّة، تعرّي زيف الواقع (11) ، فالقصّة القصيرة صارت تربةً صالحةً للتّجديد والتّجريب، تتيح للقاصّ أن يستخدم مختلف معطيات الفنون الأخرى، وكلّما خرجتْ على نظامها الفنيّ كانت أكثر جدّة وألصق بالحياة، لأنّ الحياة نفسها لا تسير على وتيرة واحدة ونظام صارم. ومع كلّ هذه الأشكال لا تتخلى القصّة القصيرة عن مشابهة الواقع ومحاكاته.. ومن هنا ميّزت إيلين بالدشوايلر Eileen Baldeshwiler بين نوعين من القصص القصيرة: نوعٍ يعتمد على المحاكاة Imitation، وآخر يعتمد على الغنائيّة Lyricism، هي تصف قصص المحاكاة بـأنّها المجموعة الأكبر من القصص التي تتميّز بفعل خارجيّ، يتطوّر على نحو منطقي ومن خلال شخصيّات يتمّ صنعها أساساً، لتتقدّم بالحبكة، وتبلغ ذروتها بالنّهاية الحاسمة التي تعطي أحياناً بصيرةً شاملةً، وتستخدم لغة الواقعية النّثريّة، وأما قصص الغنائيّة، فهي تركز على التّغيّرات الدّاخليّة والأمزجة والمشاعر مستخدمةً أنماطاً بنائيّة مختلفة، تعتمد على تشكيل العاطفة نفسها، وتعتمد في معظم الأحوال على النهاية المفتوحة، وتستخدم لغة القصيدة الموجزة والمثيرة للعواطف والمشخّصة (12) . فهذا النّوع من قصص الغنائيّة يشترك مع قصص تيار الوعي Stream of consciousness - وهي في الأساس تقنيّة روائيّة - في استخدام لغة قريبة من لغة الشّعر وفي ارتياد منطقة متشابهة من التّجربة الإنسانيّة، هي منطقة المشاعر والصّور الغائمة التي لم تدخل بعدُ طور التّشكيل النّهائيّ، ولكنّ قصص تيار الوعي لا تكتفي برصد حركة الدّاخل فحسب، وإنّما تسعى أيضاً إلى رسم الشّخصيّة الإنسانية في مختلف جوانبها: داخلها وخارجها، ماضيها وحاضرها، أحلامها وهواجسها.. وهكذا تتحوّل القصّة إلى عالم ذهنيّ مضطرب ومتشابك، يزخر بالتّداعيات، ويفيض بالمشاعر المبهمة، ومن الذين برعوا في هذا الاتجاه: هاني الرّاهب، ووليد إخلاصي، وإدوار الخرّاط.


المصادر والمراجع:
1- أركان الرّواية لإدوارد فورستر، ترجمة موسى عاصي، الطّبعة الأولى، دار جرّوس برس في طرابلس لبنان 1415هـ/1994م.
2- تداخل الأنواع في القصّة المصريّة القصيرة 1960-1990 للدكتور خيري دومة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب 1998.
3- دليل النّاقد الأدبيّ للدكتور نبيل راغب، دار غريب في القاهرة 1998.‏
4- الظّواهر الفنيّة في القصّة القصيرة المعاصرة في مصر 1967- 1984  للدكتور مراد عبد الرّحمن مبروك، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1989.‏
5- عناصر القصّة لروبرت شولز، ترجمة محمود منقذ الهاشمي، الطبعة الأولى، دار طلاس في دمشق 1988.‏
6- القصّة الفرنسيّة القصيرة لرينيه غودين، ترجمة الدكتور محمد نديم خشفة، الطبعة الأولى، دار فصّلت للدّراسات والتّرجمة والنّشر في حلب 1420هـ / 2000 م.‏
7- القصّة القصيرة للدكتور سيد حامد النّسّاج، سلسلة كتابك 18، دار المعارف في القاهرة 1977.‏
8- القصّة القصيرة: دراسة ومختارات للدكتور الطاهر أحمد مكي، الطبعة الثانية، دار المعارف في القاهرة 1978.‏
9- كتابة القصة القصيرة لولسن ثورنلي، ترجمة الدكتور مانع حماد الجهني، الطبعة الأولى، النادي الأدبي الثقافي في جدة 1412هـ/ 1992م.‏
10 - القصة الفرنسية القصيرة 113و145، وغودين godenne يميز بين مصطلحي القصة story و الحكاية fabula، فيرى أن القصة محاكاة للواقع، تتعامل مع عناصر واقعية، وأن الحكاية تخييل، لايقصد إلى محاكاة الواقع، يبحث فيه القاص عن الغريب والمدهش والخارق للعادة.‏

انظر: القصة الفرنسية القصيرة 152 ومابعدها.
(2) د. مكّي: القصّة القصيرة 77.‏
(3) د. النّسّاج: القصّة القصيرة 12.‏
(4) عناصر القصّة 13، وشولز Scholes يلحظ أن القصّة تُعرف بانسجامها مع الصّفات المريبة كالوهم والكذب، ويرى أنّ الواقع ليس له وجود حقيقيّ، أي: وجوده زائل لا محالة، على حين أنّ القصّة قد تدوم قروناً، ويستدلّ على ذلك ببراعة من العلاقة الكامنة بين التّاريخ History، وهو في الأصل حادثة وواقع، وبين القصّة نفسها Story، وهي مشتقّة منه، والواقعة لكي تبقى حيّة لا بدّ أن تصبح قصّة، والقصّة - إذا رأيناها على هذا النّحو- لا تكون نقيضاً بل تتمّة لها، فهي تضفي على أعمال النّاس الزّائلة شكلاً أشدّ دواماً عناصر القصّة 16.‏
(5) كتابة القصّة القصيرة 30.‏
(6) أركان الرّواية 26.‏
(7) عناصر القصّة 17.‏
(8) مصطلح الدّراما Drama) يعنى في أبسط تعريفاته: حركة الأحداث والصّراع بين قوى متنافرة. انظر: دليل النّاقد الأدبيّ 87.‏
(9) د. النّسّاج: القصّة القصيرة 7.‏
(10) الظّواهر الفنّيّة في القصّة القصيرة المعاصرة في مصر 59.‏
(11) المصدر السّابق 68.‏
(12) تداخل الأنواع في القصّة المصريّة القصيرة 88 وما بعدها.‏







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق