
رواية عمالقة الشمال
نجيب الكيلاني
للتحميل
تناولت رواية "عمالقة الشمال" الصراع الدامي بين المسلمين والقوى المضادة الأخرى، التي حاولت زعزعة الوجود الإسلامي في نيجيريا وتحطيمه. وقد التزم المؤلف التزاما دقيًقا في عرضه للدقائق التاريخية، لهذا الصراع بخلفياته وأسبابه ومن هذه الحقائق المهمة، إن قيام المستعمر البريطاني بتقسيم نيجيريا إلى عدة مناطق عرقية ومذهبية قد فتح المجال لصراعات دامية بين الطوائف المختلفة، وهذا ما أكده أكثر من باحث.
تأكيد المؤلف على الارتباط المشبوه بين المبشرين والمستعمر الغريب غير مبالغ فيه، إذ ساهم هؤلاء في تثبيت وتقوية نفوذه في نيجيريا، وقد تركزت جهودهم في المنطقة الشرقية من نيجيريا، التي حدث فيها الانفصال عن الوطن الأم، ولهذا كله يمكن القول إن نجيبًا كان أمينًا إلى درجة كبيرة في نقله لحقائق الصراع في نيجيريا أكثر من روايتيه (عذراء جاكرتا)، و (ليالي تركستان) ، اللتين أخلتا ببعض حقائقهما التاريخية لتأييد وجهة نظره في تفسير الأحداث.
خطان رئيسيان سارت فيهما أحداث الرواية، خط سياسي تمثل بالمشاركة الفعلية التي قام بها "عثمان أمينو" في مواجهة حركة الانفصال في إقليم بيافرا، ومقاومته للثورة الدموية التي تزعمها إيرونيسي في شمال نيجيريا ضد قبيلة الهوسا المسلمة، ولم يمنعه من الانخراط في العمل السياسي من القيام بالدعوة إلى الإسلام بين القبائل الوثنية والمسيحية على السواء، مما أسهم إلى حد كبير في توحيد أبناء الشعب النيجيري في مواجهة المخططات الاستعمارية التي كانت تسعى لتحطيم هذه الوحدة.
أما الخط الثاني في الرواية، فتضمن العلاقة العاطفية التي جمعت بين عثمان المسلم وجاماكا المسيحية، وقد عبر المؤلف من خلالها عن الوحدة الوطنية للشعب النيجيري رغم الاختلاف العقدي السائد، وقد تداخلت أحداث هذه العلاقة تداخلا كبيرًا مع أحداث الخط السابق، فشكلتا وحدة متكاملة دون انفصال بينهما. كان للجوء المؤلف إلى أسلوب السرد بضمير المتكلم على لسان عثمان الذي تولى سرد أحداث الرواية وتحليل مواقف شخصياتها، أثر في خلق جو حقيقي وواقعي مؤثر في نفس القارئ، لما يتمتع به هذا الأسلوب في قدرته على الإيهام بحقيقة الأحداث والمواقف المختلفة في الرواية. ويحمد للمؤلف في روايته" عمالقة الشمال" نجاحه الكبير في التخلص من التقارير المباشرة في سرده للأحداث، وتحليله لمواقف الشخصيات، إذ لجأ إلى استخدام الحوار القصير والمكثف للتعبير عن ذلك، وإن وقع – أحياًنا - في بعض الاستطراد، ومن ذلك عملية البحث الطويلة التي قام بها عثمان للعثور على جاماكا بعد خروجه من السجن، واصطناعه المغامرات للوصول إليها، مما جعل الأحداث تسير ببطء شديد وممل، لافتقادها التدفق الطبيعي وحرية الحركة.
أما وصف المؤلف لبيئة الأحداث، فقد كان دقيقًا ومفصلا مما يجعل القارئ يعيش جو الرواية عن كثب، دون شعور بالغموض تجاهها، فقد أطلعنا على المناطق المختلفة في نيجيريا، من حيث سكانها وعاداتها وقيمها، وأحوالها الفكرية والسياسية والاقتصادية، وهذا ما افتقدته رواية "ليالي تركستان".
أما شخصيات الرواية فتقع ضمن ثلاثة أقسام رئيسية وهي:
القسم الأول: ومثله عثمان أمينو المسلم الملتزم بخط سياسي وفكري محدد.
القسم الثاني: ومثله نور، وهو صديق حميم لعثمان، ويعبر عن المسلم غير المبالي تجاه الأحداث.
القسم الثالث: ومثل الأب توم، الذي وقف موقفا مضادا في مواجهة عثمان فكرا وسلوكا.
أما فيما يتعلق بعثمان أمينو، فإن المؤلف قد أولاه كبير عنايته، لأنه يمثل الشخصية الأولى في الرواية، والأكثر امتدادا على صفحاتها، وقد عرفنا عثمان على نفسه بشيء من التفصيل في بداية الرواية، فهو على حظ كبير من الثقافة والوعي، يتقن العربية والإنجليزية، إضافة إلى لهجات القبائل النيجيرية، لكونه كثير التنقل فيها بحكم عمله كتاجر للماشية، وفي الوقت نفسه كان داعية للإسلام، وقد انتمى سياسيا إلى حزب السلاما (الذي كأن يرأسه أحمد بسيلل) وهو شخصية نيجيرية مشهورة.
ولم يمنع التزام عثمان بالإسلام على المستويين النظري والعملي أن يخفق قلبه للحب، حين رأي جاماكا التي اعتنقت المسيحية على يد المبشرين الأوربيين، وذلك لأنه كان يشعر بحاجة شديدة إلى امرأة يكمل معها مسيرة حياته، فهو قبل كل شيء إنسان له غرائزه وحاجاته العضوية، وتلك حقيقة لا مراء فيها، على العكس مما يظنه بعض الناس من أن الداعية المسلم يجب أن يكون عليه مترفعا عن هذه الغرائز والحاجات الضرورية، ولهذا تعانقت لدى عثمان القضية العامة التي تتعلق بدعوته الإسلامية وعمله السياسي، والقضية الخاصة المتعلقة بحبه لجاماكا دون تنافر أو تناقض، إن عثمان أمينو مثل المسلم الواقعي الذي لم يحلق في الخيال والعوالم الوهمية، وإنما كان يعيش واقعه دون تزييف أو تكلف، وقد كانت نظرته للإسلام نظرة شمولية متكاملة للإنسان والكون والحياة، فالعبادة مثلا في رأيه كما يقول لجاماكا :" ليست العبادة صوما وصلاة وذكرًا فحسب .. ولكن المساهمة في تخليص المظلومين عبادة .. والانتصار لكلمات الله عبادة .. ونشر العدل والحرية عبادة .. " وقد أخذ على عاتقه السير في دعوته حتى النهاية، على الرغم من المشكلات التي تواجهه والتي كان من أبرزها محاولة اغتياله، إلا أن ذلك لم يمنعه من مواصلة الطريق، فاشترك في قتال الانفصاليين في بيافرا حتى تم القضاء عليهم، وإذا كانت الشخصية الإيجابية تتميز بقدرتها على انتهاز الفرص وتؤثر فيمن حولها في محاولتها تغيير الواقع تجاه الأفضل وتترجم عواطفها إلى ممارسة عملية، فإن المؤلف وفق في تصويره لعثمان أمينو في جعله متفاعلا مع الأحداث والشخصيات المختلفة، فلم يعش على هامش الأحداث متلقيا لها دون أن يتأثر بها أو يؤثر فيها.
كما نجح المؤلف أيضا في الوقوف على صراعات عثمان الداخلية والخارجية، التي انعكست انعكاسا مباشرا على تصرفاته وأفعاله المختلفة.
قدم المؤلف عثمان بوسائل مختلفة، فقد تعرفنا عليه من خلال تصويره في المواقف الحية وتفاعله مع الأحداث والشخصيات، وتارة أخرى عن طريق حواره المستمر مع الشخصيات الأخرى على امتداد صفحات الرواية. فكشف لنا هذا الحوار حقيقة مواقفه وأفكاره، وما يضطرب في داخله من أحاسيس مختلفة. كما استطاع المؤلف أيضا إبراز صورة عثمان بشكل قوي وفعال من خلال إظهار التناقش الحاد بينه وبين كل من صاحبه نور والمبشر توم. إذ إنه يختلف عنهما جذريا في نظرته للأمور السياسية والدينية، مما أدى إلى اختلافه أيضا عنهما في سلوكه وتصرفاته العملية.
ولأن المؤلف اعتمد في سرد أحداث الرواية على عثمان فإن بعض آرائه وأفكاره قد تسللت عبر هذه الشخصية، فأنطقها فوق ما تحتمل، فكانت تعبر عن مواقف المؤلف أكثر من تعبيرها عن نفسها وواقعها، ومن ذلك حديث عثمان عن بعض القضايا السياسية المختلفة التي تناولت أوضاع السجون والمعتقلات، ومفهوم الحرية والدعوة إلى وحدة الأمة، وغيرها من القضايا وربما كان هذا التدخل من المؤلف عبر هذه الشخصية قد أتاحه استخدامه لأسلوب السرد بضمير المتكلم الذي يغري بهذا التدخل، فيشكل بذلك تهديدًا لفنية الرواية وقيمتها.
أما نور الذي مثل القسم الثاني، فقد اقتصرت اهتماماته على مطاردة النساء وشرب الخمر، وارتياد أماكن اللهو الأخرى، حتى أصبح عبدا مطيعا لشهواته، التي أفقدته شعور الانتماء لعقيدته ولأمته ولوطنه، فعاش على هامش الأحداث، دون أن يشارك فيها، ولو مشاركة متواضعة، إلا أن بعده عن المشاركة لم يمنعه من الوقوع في المحنة التي وقع فيها غيره من مسلمي نيجيريا، إذ اعتقله الجيش باعتباره مسلمًا ولو بالهوية، وأنزل به عذابا مهينا، ولما لم تكن له قوة للثبات تحفظه من السقوط والضياع انهار أمام الإغراءات التي انهالت عليه من سجانيه، مقابل عمله جاسوسا على إخوانه وأصدقائه، ومنهم صديقه عثمان أمينو. ولما تغيرت الأحوال، وتبدلت الأوضاع، وفشلت ثورة إيرونسي في مواجهة المسلمين، داس نور هذا بالأقدام فكان عبرة لغيره من المسلمين المتخاذلين. وقد كان حضور نور أقل امتدادا وأهمية من عثمان، إذ صوره المؤلف في مواقف محددة، ليظهر مدى اللامبالاة التي وصل إليها في تعامله مع الأحداث.
أن صراع عثمان الملتزم بإسلامه مع صديقه نور المنحل، لم يكن في الحقيقة صراعا بين رجلين، وإنما هو امتداد بشكل غير مباشر لصراع عثمان مع نفسه، الذي تولد عن تنازعها حول قيامه بواجبه تجاه دينه وأمته، أو الركون للترف والملذات كصاحبه، ولكن هذا الصراع كما يقول الدارس اتخذ - على المستوى الفني - نمطا آخر تجسد في نور نفسه أما المبشر الأب توم، الذي مثل القسم الثالث والأخير من شخصيات هذه الرواية، فإنه رمز للمطامع الاستعمارية الضاربة الجذور في إفريقيا، وفي كثير بقاع القارة السوداء، إذ إن دخول المبشرين في بعثات تبشيرية مكثفة على نيجيريا، وحرمت عليهم المنطقة الشمالية، لأن المسلمين كانوا يحكمون السيطرة عليها وقد بدا من بعض تصرفات الأب توم وكأنه رجل سياسي، دون خبرة واسعة في تنفيذ الأهداف السياسية من خلال اتباع الوسائل الميكافيلية الخبيثة، فسعى إلى تحطيم وحدة نيجيريا شعبا وأرضا، بإثارة النعرات المذهبية والقبلية فيها، خدمة للمستعمرين وأهدافهما، ولما رأى أن عثمان أمين ويقف بحزم في مواجهة خططه، حاول اغتياله على يد أحد عملائه، بعد أن فشلت جهوده في تشويه سمعته أمام القبائل الوثنية والمسيحية على السواء، وقد ظهر تناقض الأب توم في وسائله وغاياته في الحوار الذي دار بينهما، إذ يقول توم لعثمان:
" لتكن الهوسا وحدها في الشمال ... والإيبو وحدها في الشرق ... واليوربا في الغرب".
- كفي يا مستر توم.
- أنا الأب توم..
- إنك تسيء إلى أبناء الوطن الواحد .. تذكر أنك أتيت تنشر دينك .. لا لتخطط لتمزيق الدولة إلى دويلات
ويلاحظ على المؤلف في تقديمه لتوم وتصويره له، أنه يركز على بعض المواقف القليلة التي تظهر، حقيقة انتمائه وطبيعة أهدافه على الساحة النيجيرية، ولهذا كان حضور الأب توم أقل امتدادا من الشخصيات الأخرى كعثمان ونور، إذ إنه اختفى عن الأنظار في الوقت الذي تم فيه القضاء على الانفصاليين، وتمكن عثمان من العثور على جاماكا واتفاقه معها على الزواج، للتدليل على أنه في حالة تحقيق للوحدة الوطنية في نيجيريا بين الطوائف المختلفة، فإن الدور الاستعماري فيها سيتراجع ويتقهقر، كما أن اختفاء الأب توم الذي كان يمثل إحدى الركائز الاستعمارية في هذه المنطقة مؤشر واضح في هذا الاتجاه الذي أراده المؤلف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق