Translate


الثلاثاء، سبتمبر 14، 2010

الطاهر وطار .. غفوة الحالم اليقظ



كتب : نذير جعفر


 
أبداً، لم يكن لقاء عابرا أو هادئاً بالطّاهر وطّار صيف /1994م/ في رابطة الأدباء بالكويت. بدا في تلك الأمسية مدافعا عنيدا وربما وحيدا عن ضرورة الإيديولوجية في الأدب! انهالت عليه الأسئلة والتعقيبات التي لم يخلُ بعضها من استفزاز، لكنه - وهو مؤسس جمعية «الجاحظية» وصاحب شعارها: «لا إكراه في الرأي» - ردّ عليها مؤكدا وجهة نظره بإيمانية عالية لا يخالطها الشكّ أو التردّد. ومما قاله حينذاك:

«كل كتابة وراءها بشكل من الأشكال إيديولوجية، خاصة لدى أولئك الذين يراؤون بأنهم كتّاب غير مؤدلجين. والإيديولوجية ليست سوى المنظار الذي نضعه على عيوننا وفكرنا ونحن ننظر إلى الحياة ونتخذ موقفا من طريقة تنظيمها. وأنت عندما تقترح، أو تقبل، أو ترفض، فإن لك وجهة نظر إيديولوجية». ‏

وفي رده على قول أحدهم: «أنت تبدو اشتراكيا وأمميا حالما، وزمن الأحلام والأمميات انتهى»! قال وطّار: ‏

«إذا كان الساسة قد توقّفوا عند الأممية الرابعة، فأنا وصديقي الشاعر الفرنسي فرانسيس كومب اتفقنا أن نؤسس الأممية الخامسة، أممية الحالمين اليقظين. ولسنا مستعدين إطلاقا للاستسلام». ‏

هذه النزعة الإيديولوجية في أدب وحياة الطاهر وطار تعززت عبر تصريحاته في معاداة العولمة الأميركية المتوحشة، وقوى الاستبداد بكل أشكاله، وهي سمة رئيسة في أعماله، وتبدو حينا مقحمة على النّص، وحينا آخر ناجمة عن مجمل تفاعل عناصر بنيته الفنيّة. وللتمثيل عليها، نتوقّف عند أشهر قصصه: «الشهداء يعودون آخر الأسبوع» في مجموعته التي تحمل العنوان السابق ذاته، والصادرة في العام 1975، عن وزارة الإعلام في بغداد. وقد حدّدت هذه القصّة مسار الطاهر وطّار الروائي برمّته، حيث لم يخرج عن مناخها العام وأطروحتها إلا في القليل من نتاجه.

تبدأ هذه القصّة باستهلال شائق ومثير، حيث تصل رسالة من بلد بعيد جدا إلى «العم العابد» والد مصطفى أحد الشهداء الجزائريين. وبوصول الرسالة يبدأ بتبشير كل من يصادفه بأن الشهداء سيعودون جميعهم في نهاية الأسبوع! وعبر هذا التبشير الذي يبدأ بصديقه المسعي، والمجاهد قدور، وشيخ البلدية عبد الحميد، ومنسق القسمة سي العابد، ورئيس فرقة الدرك، والكومينست... يتضح له أن الجميع لا يرحّب بعودة الشهداء، بدءا من الانتهازي والخائن وانتهاء بالمخلص والمناضل! وهنا تبدأ العقدة ومعها الأسئلة التي لا جواب لها: من أرسل الرسالة، ولمَ لا يريد كل هؤلاء عودة الشهداء! وهل «العم العابد» فقد عقله؟ وإذا عاد هؤلاء الشهداء ألا يشكلون خطرا على القرية، واستنزافا لمواردها، وانتزاعا لحقوق ومكاسب تمتع بها أهلوهم بسبب استشهادهم ؟ وما السبيل إلى مواجهتهم إن عادوا وردّهم من حيث أتوا؟ ‏

وتأتي الخاتمة التراجيدية برمي «العم العابد» نفسه أمام القطار ملوّحا بالرسالة، حتى انفصال رأسه عن جسده فوق السكة، لتجيب عن كل هذه الأسئلة وتضع حدا للأقاويل، في الوقت الذي تطرح فيه أسئلة جديدة أشّد غموضا والتباسا: «من وراء مقتله»؟ و«ما فحوى الرسالة التي أراد إيصالها»؟ ‏

لا شك أن القصة قائمة على أطروحة إيديولوجية، مفادها: أن بعض الانتهازيين والخونة والمستفيدين تسللوا إلى مواقع النفوذ، وقطفوا ثمار الاستقلال، وأن عودة الشهداء ستفضحهم، لذلك عملوا كل ما بوسعهم على هدر دمهم من جديد ومنعهم من العودة! ‏

يعرّي الطاهر وطار عبر هذه القصّة الشرائح الطبقية المستغلة التي حاولت تجيير الثورة الجزائرية لمصالحها الخاصة، وتهميش أصحاب المصلحة الحقيقيين، الذين ضحوّا بأبنائهم وأموالهم من أجلها. ‏

وتشكّل هذه الثيمة المحور الرئيس في رواية «اللاز» أيضا، حيث المهمّشون هم وقود الثورة، ورمادها في آن معا! ‏

إن انحياز الطاهر وطار للطبقات الشعبية، يفسّر إلى حدّ كبير النبرة الإيديولوجية الحادّة في مجمل أعماله الروائية، بدءا من: «اللاز»، ومرورا ب-«الزلزال»، و«العشق في الزمن الحراشي»، و«الشمعة والدهليز»، ووصولا إلى روايته الأخيرة: «قصيدة في التذلّل» التي كان يخشى أن يرحل قبل اكتمالها، فظل مواظبا على كتابتها أثناء علاجه الكيماوي في باريس، على نفقة الحكومة الجزائرية، حتى أنهاها في العام 2009، وكأنه بإكمالها أكمل رحلته الإبداعية والحياتية، فغفا غفوة الحالم اليقظ، الذي ظل يراهن على انتصار حلمه في الحرية والديمقراطية، وفي مجتمع إنساني عادل حتى آخر كلمة في حياته!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق