Translate


الجمعة، أكتوبر 08، 2010

عبد الله يبحث …عن ذاته و يقول :ترى من أكون أنا؟



بين الواقع والذاكرة:
في البر سافر وفي البحر مشى على الماء وفي الصحراء سبح. استعار من النسر جناحيه وطار مع العاصفة يسابق الريح. إلى الماضي رحل عبد الله، ولكن المستقبل رده إلى ذاته، إلى تاريخه حيث استهلكوا عمره، هو وأبوه وأمه، اجتاز عبد الله المسافات وهو لا يدري ما إذا كان يتأخر أم يتقدم. في عالم محدود بحدود أنفاسه وأحلامه. مسكين عبد الله. لن يهدأ يوما ولا عرف الراحة، وهو يسأل ولا يعثر على جواب: كيف يمكن للإنسان أن يوجد حقاً؟‏
فمن هو عبد الله ؟
في ذاكرته سافر عبد الله وفي الحلم، تجاوز يوما ذاكرته وأحلامه حيث تمنياته، تطلعاته، أحاسيسه ،صوره، إشراقا ته، ذاته، رؤاه … وعالمه كله؟ وفيهما أيضا عذابه، مرضه، بؤسه، سجنه … وموته. في ذاكرته عاش أبوه، فيها وجد ومات. وكل ما يعرفه عنه عبد الله هو أنه قضى حياته بعيد إلها هو قي حقيقته صنم هش رآه يتداعى وهو يموت … وفي ذاكرته التقى عبد الله أمه: قضت حياتها تسقي كرمة لم تثمر … وفي ذاكرة عبد الله طيف امرأة: أهي زوجته، عشيقته، صبية رآها أو تخيلها ..؟ لا يدري ما إذا كانت من الأثير أم من لحم ودم؟ ما إذا كانت صلته بها قد تحققت فعلا أم أنه حول أحساسيه إلى وقائع؟ ويتعب التفكير عبد الله فيقول: عالم عقيم.. ولم يدري من العقيم، أهو أم العالم؟ .. وهذا الكون؟ انه بين يديه، يجتاز مسافات، بلمحة عين يحيط به، يلحق فوقه، يدوسه بأقدامه، يزرعه ويحصد الزرع، ولكن عبثا يحاول الدخول إليه: انه مغلق في وجهه. عبثا يناديه سكانه، أصموا آذانهم فلا يسمعون.
يوما فقد عبد الله ذاكرته، نسي اسمه، أضاع وجوده وهويته، سقطت من ذاكرته المواصفات التي تميزه عن غيره. فلم يعرف أهله ولم يعرفوه، يومها ذكر تاريخه: انه بدوي جاب الأفاق سيرا على الأقدام. تعلم الشعر والقرآن … وأيضا الحب علم العالم هذه الفنون بنى حضارات وأبدع ثقافات. في القدس اسمه عيسى، وفي مكة اسمه أحمد … وماذا بقي لـه من هذا التاريخ الطويل؟ حروب الردة وحروب الروم، جرح في فلسطين والفرص الضائعة … ومجموعة أحاسيس لم ترتو، حاجات لم تتحقق، وفي تلك الأيام السعيدة والبعيدة كان عبد الله موجدا. أما اليوم فهو وعالمه في درجة الصفر حيث يتوارى الدليل ومع تواريه هو ستختلط البدايات بالنهايات، يختفي النور وتغمر الظلمة العالم عبد الله يلملم عالمه، ينكفئ عن ذاته عسى يعرف اسمه فيحفره على صخرة الموت …‏
فمن هو عبد الله؟‏
قال عبد الله يوما متسائلا أو يستطيع المرء أن يعيش بدون خوف؟ لا، أبدا فالخوف بعد من أبعاد وجوده، ووجد عبد الله مذعورا، يهرب من ذاته إلى ذاته، إنه مطارد: الأشياء ترفضه والبشر يلاحقونه، فيعود إلى ذاته، ويسأل: متى بدأ الخوف؟ كيف بدأ؟ متى ينتهي؟ سألوه يوماً: علام أنت خائف؟ فحار في أمره …‏ هو عصر الرعب، قال عبد الله، وفي عصر الرعب يتجنب الإنسان الناس ،‏ فقد يكون أحدهم رقيباً عليك، ويتجنب الأشياء، فقد تكون فخا نصبوه لك ن في عصر الرعب يقاضيك الحراس الحساب، إذا أكلت وإذا لم تأكل، إذا ضحكت وإذا قضبت حاجبيك فلنهرب من عصر الرعب، قال عبد الله، ضم عبد الله عشيقته، وإلى الأمام حث الخطى، توارى من عالمه: الوراء، واليمين، واليسار، فقد يراه الرقيب إذا التفت، وكان يسأل في كل لحظة ملهوفا إذا كان الرعب قد انتهى، فيشيح الناس عنه وعن عشيقته بأنظارهم، لكأن السؤال من المحرمات. وينهك عبد الله وعشيقته الجوع وما يبرح يسأل: إلى أين يلجأ الإنسان في عصر الرعب.
فمن هو عبد الله؟‏
أهو أنا؟ أنت؟ هذا؟ ذاك؟ فلان من الناس أم غيره؟ أهو موجود أم وجد أم سيوجد؟ أيمكن أن يوجد؟ من أين يستمد قدرته على الاستمرار في الوجود؟ من‏ الملاحظ أن الاسم بدأ يشيع بين الأدباء، أيدل الاسم على نموذج فني جديد؟ إلى أي فئة، طبقة، جماعة ينتمي هذا النموذج؟ أهو مرتبط بمكان وبمرحلة تاريخية معينة أم يمكن أن يوجد في أي زمان أو مكان كان من العالم؟‏
أيكون عبد الله ذلك الذي أحتضنه صاحبه في خياله وقلبه، حتى إذا ما نما واكتمل نقله إلى الورق، حرره ليعيش بين الناس، ربما بمعنى ما نعم، فمن غير الممكن أن يتقمص مؤلف أحد الشخصيات، يعيش معها فترة من الزمن، دون أن يمنحها بعضا من سماته، علائقه بأهله مواقفه من الناس، أحكامه، ذوقه … إلا أن صاحب عبد الله رأى يوما أن صنيعه صار لـه كيان ما فلم لا يقول لـه: اسمك غير اسمي، حياتك غير حياتي، وسيكون مصيرك غير مصيري … فامض في سبيلك، عش حياتك الخاصة، أنت غيري، أفهمت؟ في الغير بعض من الذات بدون شك، وبينهما أيضا مسافة قد تكون كبيرة، وهي التي تمكن كلا منهما أن يعيش حياته الخاصة، لن أراك بعد اليوم، لن أكون أسيرك يجب أن أنصرف لغيرك، في خيالي حيوات كثيرة هي التي تطردك، أفهمت.‏
- قد لا تراني مرة أخرى ولا أراك، قال عبد الله لصاحبه ..
إذا حققت الهدف من وجودك فأخبرني. عندها ألقاك مرة أخرى … وسيكون لنا عندها حديث أخر.‏
- أنا صنيعك، يا رجل قل ما أنا عليه هو منك … ولك حياتي، مغامراتي، انفعالاتي … والطاقة التي أحيا بها، فكيف تريد مني أن أواجه الناس وحدي، والناس ذئاب على بعضهم، أفيرحمون كيان ضعيف مثلي؟‏
- ومع ذلك ستستمد حياتك المقبلة من هؤلاء الناس، فكل قارئ – وآمل أن يكون قرائي كثر – يمنحك معنى ما، وجودا ما، وقد يكتشف أحدهم فيك عنصرا لم ننتبه إليه، كل ذلك سيعطيك حياة غير التي منحتك إياها‏ كثيرون، يا أخي، يعيشون بغيرهم.
- أنا من عالم الحلم والذاكرة، وكل واقعة من وقائع الحياة أقوى أضعافا مضاعفة من أحلام الناس وذكرياتهم كلها …‏
- ستتأكد بالتجربة الواقعية جداً أن كثيرين، أفرادا وجماعات شعوبا وأمما يعيشون ذكريات الماضي وأحلام المستقبل ولها. وسوف تكون‏ أنت منهم. وقد يرون فيك صورتهم، كاريكاتور وجودهم فيرحبون بك ويمدون بعمرك.
- أنا خائف.
- هذا أيضاً شائع. والخوف على الأرجح من طبيعة الإنسان. وفي عالم مذعور كعالمنا يتكسر الخوف على الخوف، كن جريئا وتقدم. وعندما تتعرف إلى الناس سيرون فيك واحدا منهم، لا بل أنت واحدا أفضل منهم لأنك صريح لا تخفي حقيقتك. أما فهم فيكذبون على أنفسهم.‏
- قل لي: من أين أتيت بي، عسى أن أجد بين الناس بعضا من أقاربي ألجأ إليهم في المواقف الحرجة أو عندما اصطدم بمأزق.‏
- من عامة الناس أتيت بك وإليهم أعيدك. كلهم أقاربك وأقاربي. كلنا من هذا الزمن. وفي الزمن يلتقي الناس ويتعارفون أو يتباعدون. كان لك أقارب أقربون من ثلاثين وعشرين سنة. هل بقي بعض منهم حتى اليوم؟ لا أدري. عمليا أنت يتيم. ولكن قد تكون ذريتك كبيرة على الأرجح.
رحلة …… وحوار
وكان على عبد الله أن ينصاع لأمر صانعه … سأل الناس عبد الله عندما رأوه: من هو؟ من أين أتى؟ ماذا يريد؟ …‏
- مخلوق هجين، قال أحدهم، ربما ولد غير شرعي.
- مشروع إنسان، قال غيره، أو صورة مشوهة للإنسان.
- هذه نماذج بشرية لا وجود لها عندنا. نحن نعرف ما نريد ولنا أهداف نموت من أجلها. أما هؤلاء فالوجود الإنساني عندهم لا معنى لـه لكأنه تورم في جنسهم السليم. نحن نرفض فلسفات البعث: إنها مؤامرة علينا وعلى الإنسان.
ويحار عبد الله في أمره، هو من هو، فما معنا هذه الأسئلة؟ انه يعيش حياته يوما إثر يوم وساعة بعد ساعة، لا يعنيه القبل ولا البعد، وذاكرته هي أيضا آنيه. ويظن عبد الله أنهم سيعدمونه أو سيطردونه، فيهرب إلى معلمه.
- رفض الناس، قالوا أنهم لم يروا لي شبيها بينهم.
- نحن، يا ابني، شعب ينكر، مع انه مسؤول أحد كبير عن اختيارها، نحن شعب يكذب على ذاته.
الواقع عنيد يا ابني، فبقاؤك بينهم سيرغمهم على تبنيك والاحتفال بك.
- لم أشعر بأني يتيم حقا إلا عندما التقيت اخوتي، أبناءك الآخر أو من صنعت من كائنات أدبية. فهؤلاء لم ينتبهوا لوجودي وأنا لم أتعرف إلى ذاتي في أي منهم.
- هذه مسألة أخرى فالشاعر يصنع باستمرار مخلوقات جديدة، جدتها في أنها تختلف كل منها عن الآخر، الأمر الذي لا شك فيه هو أنك، بين صنائعي، الأقرب إلى الواقع الراهن … أولئك بعضهم صعّد الواقع والبعض الآخر افترضه وربما حصل عليه.
- ربما أنك أخرجتني إلى الناس قبل الأوان.
- قلت لك: قد أراك عندما تكمل دورتك ويتكامل وجودك بتفاعلك مع الناس.
- أنا لست موجودا من لحم ودم فتسري علي قوانين الكائنات الحية. أنا كلمات على ورق.
- رب كلمات وشخصيات على الورق تحدث الأجيال والقرون. وفيما اكتشف البشر، أفرادا وجماعات حقيقية، فكانوا من عوامل استمرارها غير المحدود. وهي كانت شاهدا على سقوطهم وتواريهم.
- قالوا: إني مخلوق هجين ..
- وهم الأصلاء … تضحكني أصالتهم …‏
- قالوا: أني باستمرار هارب إلى الوراء أو إلى الأمام، وأضاف أحدهم: هو على صورة صاحبه، يهرب إلى الأمام، فيجد ذاته في الماضي يراوح مكانه‏
- نحن شعب يفلت باستمرار من واقعه لأنه يخشاه، تارة يلجأ إلى الماضي والماضي سواء بسواء كلاهما يعيش في الحلم والذاكرة.
أنا أوجدتك صورة كاريكاتورية عن واقعنا الأسطوري عسى أن تسهم في تبديد أوهامنا، عن هذا الواقع أو تسهم في تحطيم عقلنا العقائدي الأسطوري، والكاريكاتور الذي هو صورة مضخمة عن ثغرات الواقع وعيوبه قد يدفع الإنسان – أنا وغيري – إلى التحديق في الواقع المباشر والانتباه إلى جزئياته ووقائعه. بهذا قد يزيل الهالة الخيالية التي تقرأ هذا الواقع، انطلاقا منها وتتفاعل معه.
لست أنت ما تعرف، بل ما تقول، حتى ولو كنت تؤكد لذاتك أن هذا القول كاذب فقولك أيا كان نوعه هو الذي يكونك. في القول العربي تورم. فالكاريكاتور بالنسبة إليه كنسبة الهواء التي تدخلها إلى قاعة مكتظة بأناس أغلقوا النوافذ عليهم ليناقشوا قضاياهم وهم يدخنون … قال عبد الله يوما وهو يتحدث إلى ذاته، أنا لا زمان لي ولا مكان، أفيمكن أن أوجد في أي زمان ومكان كان؟ أم أنا من أساطير هذا العصر المتعب والمتعب، عصر الحلم، والمشبع مع ذلك بالأساطير أكثر من أي عصر؟ ولكني أشعر من وجه أخر أكثر فأكثر أن ثمة وشائج قربى بيني وبين الذين أعيش معهم، أقصد معلمي والذين يتفضلون ويدعونني إلى مكاتبهم، وفي ساعات فراغهم يفتحون الكتاب الذي سطرت عليه وقائع مغامراتي، وهؤلاء يتكاثرون.
كان عبد الله قد انصاع لإرادة صاحبه وواجه الناس، ويدهشه الشطر الثاني هذا في حياته. قال: أيمكن للمرء أن يكون في الوقت ذاته واحدا وكثرة؟ فكل قارئ يرسم لذاته عنه صورة غير التي رسمها القارئ الآخر وقد يكتشف فيه إشارات ومعاني لم ينتبه أليها صاحبه نفسه، قال إن ما يعجز المنطق ويرى فيه العقل مأزقا هو سبيل الخيال، والأدب، وواقع الحياة. هذه المغامرة غير المتوقعة بالنسبة إليه أعادته إلى ذاته، الأولى إلى الشطر الأولى من حياته يوم سجله صاحبه على الورق فأخرجه إلى الوجود وقال:
أأنا موجود؟ لم جعلني صاحبي على هذا الشكل الذي لا أحبه. فأنا يتيم، لا أب لي ولا أم، كان لي والدان في غابر الزمان، عقيمين كانا على ما أذكر؟ وقاسيين علي. فأنا لا أشعر بأية صلة رحم بيني وبينهما، ولا بصلة قرابة تربطني بهما، وما الذي تركاه لي؟ أي أثر تركاه في وجودي؟ فأنا مقطوع الجذور. لا وطن لي. منه تستمد حياتي معناها ويلم شتات وجودي المبعثر في وجهات العالم الست … أنا وحيد بين أقراني. قل لي أن أمثالي تكاثروا في الستينات والسبعينات ثم تواروا لم يبقى منهم سوى عينات نادرة مبعثرة في بلاد الله، فأنا وجدت هرما أو على عتبة الهرم، كما أراد لي صاحبي أن أكون، أو ستكون لي ذرية؟ على الأرجح ولكن في يوم ليس بالقريب، فيما أعتقد، المسألة فيها نظر … ولم لا أطلب من صاحبي أن يصنع لي أخوة وأخوات أرحل معهم في العالم .. فإنتاجه الوفير حتى اليوم غريب عني، فلا أرى مجالا للاقتراب منه والتحدث إليه. قالوا لعبد الله :
من الذي لـه أرض ووطن، من الذي لوجوده معنا بذاته، من الذي يستطيع الإدعاء أنه استقر في مكان ولكل مرة في عصر تخلع عليه الآلة المسفسطة صورتها وطبيعتها تعيد تكوينه على صورتها ومثالها. والآلة هذه حيادية بحياد قاتل يستخدمونها لإنشاء الأوطان وإعادة إنشائها، لتبديل جوف الأرض وسطحها وبنيتها. والإنسان ليس ملكا لذاته بل ملك الصدف التي تجره إلى حيث يعرف أو لا يعرف، سيان وقد يبيعونه ويشترونه هكذا، مجانا لوجه إبليس، لقد هجرنا منذ زمن طويل منطق الأسباب والنتائج فضاعت الهويات، وكلنا غريب كل منا على طريقته وفي بلاده. ومن لم تخرجه الغربة من قوقعته فهو من سلالة في طريقها إلى الانقراض.‏ لقد جعلت الآلة المسفسطة وجود الإنسان، يا عبد الله، أكثر هشاشة من وجوده‏ كلمات على ورق. إنها تتلاعب به ونفسه وتعيد تكوينهما وفق النموذج الذي‏ حدده لها صاحبها أما الكلمات على الورق فالإنسان عاجز عن تبديلها، عندما تنتشر ويعرفها الناس. كل ما باستطاعته عمله هو محاكاة هذه الكتابة.
في عصر الجماهير العربية، يا عبد الله، ذاب الشعب في الجمهور المغفل وتقلص معنى الوطن ومعه معنى الأمة، فالأوطان ترسم أولا على الخريطة، وفق القوى الدولية، ثم تحقق على أرض الواقع وتظل قائمة حتى يختل هذا التوازن فيعاد تأليفها … وعندما يتكون الوطن يكبلونه بالقروض المالية كي يستمر في البقاء ويجعلون لـه حكومة وجيشا فيصير لـه مع الزمن تاريخ ويصبح أمة … وما الشخصية الفردية؟ إنها في نظر العلم الحديث جدا، مجموعة الخصائص التي تستمدها من بيئتها الطبيعية والإنسانية. وهي اليوم لحد كبير كذلك بفضل تضافر الأمة والجماهير.
و يصيح عبد الله مدهوشا: وأنا أيضا خلعت يوما قدمي وسرت بدونها وأبدلت يديّ بجناحي نسر وطرت. ويوما تخليت عن ذاكرتي، فعاد ما في إلي ،أنا أيضا بوسعي تفكيك بقية أجهزتي الجسدية والنفسية إذا؟‏ أجابوا: في الحداثة كل الموجودات تصنع وفق نموذج مسبق للإنسان كالأشياء سواء بسواء فغدا بوسعهم أن يفتعلوا لك كل ما تشاء: الرجلين المستعارتين والانتماء سواء بسواء تماما كما يفعل صاحبك عندما يكتب.
قال: أنا إذا ابن الحداثة؟ …
قالوا: بلى، ومن مفارقات صاحبك أنه قضى حياته يدرس التراث ويحاكيه في شعره. وكان كلما أعتقد أنه اقترب منه خطوة ابتعد عنه خطوتين. ويوما وبإلهام مفاجئ وجدك، يومها انتقل إلى رؤى الحداثة واكتشف أساطيرها فوجدك ومعك العروبة التي كان يبحث عنها …. ومن مفارقات الحداثة أنها إنكار لكل الانتماءات ومع ذلك فهي اكتشاف الإنسان لانتمائه الحقيقي، وهذا الاكتشاف وحده المنتج، فثق يا عبد الله، إن أقاربك سيتعرفون يوما إليك. وقد تروى لنا الشطر الثاني هذا من رحلتك الفريدة في نوعها، وللحداثة التي تتنكر لكل فرادة فرادتها وأصالتها. أفي البدء كان الخوف؟
عالمي شتات، قال عبد الله، أضعت الدليل والطريق، عبثا أبحث عنهما منذ أن وجدت، فلا أدري أأسير إلى الوراء أم إلى الأمام أم أراوح مكاني. وهذا هو الأرجح … أهي الجهات ست أم عشر أم ماذا؟ لا أدري. اختلطت كلها في رأسي … فالريح هي التي تجرني تعلو بي وتهبط. والأمواج تتقاذفني، فلا أميز اليمين من اليسار، ولا الليل من النهار تتلاعب بي كما يتلاعب الولد بكرته، تغمرني المياه فلا اختنق، والنار في داخلي ولا أحترق، وأنا خائف، في البر خائف، وفي البحر عطشان وفي الصحراء عريان وفي الجو أجر أثقالا بحجم الجبال.
قالوا لي: أين اهرب؟ أين أختبئ. الخوف يلاحقني، ألم عالمي، أنطوي على ذاتي، أتقوقع وأهرب من ذاتي، إلى ذاتي، فالخوف في.
قالوا لي: علام جعلني صاحبي هرما، فقيرا، أعزل وحيدا، حزينا، عاريا، زادي رغيف أسويه على نار انطفأت قبل أن أجيء إلى العالم، رغيفي مثلي مرة يحترق على النار التي تشويني، ومرة لـه طعم صقيع القطب الذي يخترق عظامي ويجمدها فهي مسلولة. سألوه: هل خبرت عصر الرعب فيما خبرت؟‏
أجاب عبد الله: أو يسأل الخروف عن السكين التي يشعرون أنها تخترق رقبته وما أدري يومها قالت لي صديقتي: آن الأوان أن لنهرب من عصر الرعب. فقاطعها الرعب صائحا: أنا في الكل، ملك الكل وللكل، يومها صمنا وبكينا وصلينا. سنة كاملة قضيناها نستنجد بأولياء الله كلهم وأنا أشعر بالرعب يتسرب إلى داخلي من مسام جسمي كلها، فعظامي تتقضقض هلعا :‏
ثم أودعت صديقتي أضلاعي وسرنا، ركضنا، طرنا.. اجتزنا صحارى لا حد يحدها. عطشنا، جعنا، أنهكنا، وكنا كلما التفتنا، كانت عين الرقيب تتبعنا، في أول محطة عروا صديقتي وعروني، وجلدوها وجلدوني حتى سالت دماؤنا، قالوا عرفناكم، وهذا جزاء الهارب.‏
قلت لصديقتي: نخلع جلدينا فلا يعرفوننا، وخلعناهما، ثم تقشفنا سنة أخرى وواصلنا مسيرتنا. تسلقنا الجبال الشاهقة هذه المرة وسبحنا في البحار العميقة. كوتنا النار وحطم عظامنا الصقيع، وكان الموت يلاحقنا، وما الرعب إن لم يكن موت الأحياء …؟ قلت لصديقي: أولا تعتقدين أن الرعب يلاحق الأموات أيضا. كانت أسنان أبي تصطك من الخوف عندما رأيته آخر مرة، وفي فمه وعلى وجهه ضحكة هستيرية يتطاير منها الرعب في كل الجهات وكأنه يقذفه في وجهي.‏
في المحطة الثانية صرخوا بنا قفوا أين إذن السفر؟ ثم عرونا وجلدونا أضعاف المرة السابقة وأضافوا: يجب أن تنسوا الرعب كي تتمكنوا من السفر.
قلت لصديقتي عندما تواروا: لم يبقى علينا سوى أن نرمي ذاكرتينا جانبا ونرحل رحلة الحياة والموت. قلت وأنا اركض لاهثا وصديقتي على كتفي، تبخر من رأسي الماضي والحاضر فلا أعرف من أنا ولا أين أنا ولا لماذا أركض، أعرف سيئا واحدا هو أن الرعب يحيط بي وينفث سمومه فيّ، فلا أدري أهو في داخلي أم حولي.
في المحطة الثالثة أشفق الحارس على عبد الله وصديقته، قالوا مسكينان، وراء الذاكرة … الذاكرة … والإنسان ذاكرته؟‏ قال الذين سمعوا عبد الله يروي رحلته:
يائس أنت، يا عبد الله، لقد راكم صاحبك خوف القرون العطشى والأمم الجائعة والشعوب المهجرة … من هذا كله جاء طالبا منك أن تقوله للناس، فعالمك صحراء لا شجرة فيها يستظل بفيئها المسافر عند الظهيرة ولا نقطة ماء تبرد لهب حنقه ولا نسمة هواء تسعف أنفاسه المخنوقة، صحراء، وبين الصحراء صحراء من القديم الأقدم ومن أعمق أعماق اللا شعور ينبثق الخوف الذي حل فيك، اتحد معك فأنت صورته إذا كانت لـه ثمة صورة، وكأنه ينسكب منك على الدنيا دمارا ورعبا وموتا. وتلتم على ذاتك عسى تنام وترتاح، فإذا الكوابيس تلاحقك .. لم كان هذا الخوف القديم الذي هو بعمر الإنسان؟‏ و لم يعود اليوم معك ومع غيرك؟‏
ألأن الشعوب كانت تهاجر طلبا للأمان وللكلأ، وتلتقي فالأقوى يفترس الأضعف؟ والوحش الإنساني أكثر ضراوة من الوحش البهيم، هذا يفترس بغزيرته، أما ذاك فيفترس بعقله ليجعل مفعول الإفتراس أضعاف ما هو عليه … وتتمدن البشرية وتتمدن، فثمة ناظم للهجرات وأخلاقيات للحروب تحد لدرجة ما مفعول الأذى في بعض الحالات والظروف ولكن هاهو في قرننا العظيم هذا، عصر العلم ة التقنية وشرعة حقوق الإنسان … هاهو الإنسان يعود إلى همجيته الأولى وقد جعل الحلم مفعولها المرير أضعاف أضعاف ما كانت عليه في كل العصور والقرون السالفة، فتدمير النفوس يسبق تدمير الأجساد والحضارات، والدمار يولد الدمار وكذلك الرعب الملازم للدمار يولد الرعب. والموت الذي هو نتيجتهما يولد الموت … وهكذا يمتد هذا الثالوث غير المقدس في المكان والزمان … تضيق اليوم الأرض بسكانها فالأمور تجري وكأنه لابد من أن يفترس الناس بعضهم البعض …‏ كان التدمير في الماضي عشوائيا لحد كبير. فصار اليوم منهجيا لـه ضوابطه وأخلاقياته. تشرف على تطبيقه الدول الكبرى باسم حقوق الإنسان وحريته وحق الشعوب في الكرامة وتقرير المصير. والواقع هو أن الدول الأقوى تستثير الصراعات وتنظمها، وكأنها بذلك تشبع نهما قديما – لا يرتوي – نائما في أعمق أعماق اللاشعور الإنساني. والإرواء يذكي النهم، يضاعفه. فالصراع بين الكبار شبه حتمي. وحرب الأقوياء دوما كونية، وعلى أية حال فإن الشعوب هي التي تدفع الثمن.
لم يذل الإنسان الإنسان ويدمره؟ ألأنه يخشاه؟ أو يخيف الضعيف القوي؟ أبدا. الخوف ليس من هذا أو ذاك. إنه من الكل، أو من المجهول. وهو خوف ينبثق من أعمق الأعماق على شكل موجات انفعالية يصبها القوي على الضعيف، فديا لكتيك القوي والضعيف من ثوابت الوجود الإنساني. ديالكتيك الحب والموت، وهذا حديث آخر.
قال عبد الله: عن الخوف؟ سلوني أنا. فقد خبرته بكل ألوانه وأنواعه وأشكاله. فإلى جانب ما تقدم وبالإضافة إلى ما يرافقه من حسد وحقد وصلف الخائف، هنالك حالة غريبة قلما تنتبهون إليها وهي أن الخوف يجعلك اثنين: أنت والآخر قرينك، وليس القرين شبيها أو مثلا ولا انفصاما في الشخصية. ثقوا أني لست مصابا بأي داء جسمي أو نفسي. لقد أرادني صاحبي سليما معافى لا أدري أكان هذا من حسن أو سوء حظي، فقريني هو أنا، أو هو وساوسي الشخصية، إذ تتراكم، تنصب أمامي وكأنها شخص آخر يرصد أفكاري وأعمالي ويحاسبني عن كل بادرة تصدر عني حتى ولو كانت خاطرة بسيطة، ويأخذ عمل الآخر هذا شكل تحليل ومقارنة يحركهما ويغذيهما تداعي الخواطر – لا العقل التحليلي – فالغرض هو تأنيبي وتقريعي أو معاقبتي الذاتية على حركاتي وسكناتي كلها. وتجري الأمور في حياتي وكأني أنا الذي اتعب وأشقى وهو الآخر الذي يقطف الثمرة عندما تنضج، أو كأنه يسرق متعي كلها وبالدرجة الأولى لذاتي الجسدية حتى ولو كانت خيالية.
- وهي فعلا ثمرة الخيال، الحلم، أليس كذلك، يا عبد الله؟
- بلى إنه الرقيب الداخلي الذي نحوله في سياق حياته الاجتماعية إلى مؤسسات، أعضاؤها يحصون عليك أنفاسك على أنها مشبوهة حتى تثبت أنت براءتها.
أجل إن قريني رقيب داخلي … ولا شيء آخر. إذ أنه هو الذي يحرضني على ما أقوم به من أعمال أو ما يخطر ببالي من أخيلة وأحاسيس ومشروعات، يغريني هو مثلا يعرض علي مفاتن المرأة. وعندما اقترب من صديقتي يستأثر بالمتعة ويوبخني على عملي … فالمرأة محرمة ومع ذلك سأموت إذا تركتها.
- قل أنه يفقدك أو يقلص عفويتك، قدرتك على المبادهة، إرادتك، ذلكم هو عمل الوعي المفرط عندما يستحيل وسواسا، يشل في الإنسان قوة النزوع ومعها الرغبة والتطلع، هذا هو يا عبد الله شأن الشعوب القديمة عندما تغلب على أمرها‏ فتستسلم للطغيان أو يغزوها الأجنبي ويذلها فتراوح في مكانها قرونا وهي تجتر ماضيها.
- أنا أخاف من ذاتي، أخاف من الخوف. إذ إن قريني يسجل ما أرى وما أسمع، يحفظ نبضات قلبي ويحاسبني عليها.‏
- أهو حاضر حتى في الحلم؟‏
- الحياة كلها حلم وذاكرة يا أخي: حياتي، حياتك، حياة كل كائن حي عاقل: رصيدي أنا دفتر أحلام، أحلام - ذكريات …. أتذكر أن لي صديقة، زوجة، عشيقة، فادعوها إلي وأخاف عليها من الناس، من قرينتي من ذاتي وأخبئها بين أضلاعي وأطير أسابق الريح فأصل إلى أقاصي الصحراء لا شجر ولا ماء ولا نسمة تطري أنفاسك … فإذا به أمامي في أعماق الحلم أمامي، وإلى جوف الأرض يسبقني.
قالوا لي: أيستطيع الإنسان أن يهرب من نفسه، من ذاكرته؟ وكيف؟
يوما صحوت فتساءلت: أأنا حقا في اليقظة؟ حي أم ميت؟ عاقل أم مجنون؟ اثنان أم واحد … موجود أم غير موجود؟ إلى أين سأنزح في أي بلد من بلاد الله سأحط رحالي؟ ولأي هدف؟ المؤكد أني أعيش بين طاغيتين: المرأة وفرعون. وأنا في النار ولا أحترق، في الفضاء ولا أسقط، أغرق ولا أختنق ….فأنا في طريقي إلى الجنون أم إلى الموت؟ ولما لم أجد جواباً عن أسئلتي، اخترت لي منفى هو ذاتي، ففي عالم شحيح، عقيم، لا طعم لـه ولا معنى، ناره لا تحرق، ماؤه لا يروي، زاده لا يشبع، صقيعه لا يجمد … لا يبقى على الإنسان سوى أن ينكفئ على ذاته ليحافظ على بنائه.
الذاكرة الأولى:  قالوا: أنت منا يا عبد الله. أنت صورتنا في مرآة ضخمة أمراضنا فجعلتها عشر مرات أكبر مما هي عليه وطمست البقية الباقية من فضائلنا، يوم بددنا رصيدنا، جعلنا من الحياة حلما، ومن الماضي صنعنا ومن المرآة أسطورة ومن الوجود حملا ثقيلا، باهظ الثمن ضعيف المردود.‏
قال عبد الله معقباً:‏  في الماضي كانت لي أسماء أخرى. وكنت فارسا مغوارا فتحت الأمصار وعمرت المدن، أنشأت الحضارات، علمت الناس الشعر وكشفت للأمم عن أسم الذي لا إله إلا هو، أين هو ذلك الزمان؟ توارى في غياهب الماضي وسقط من ذاكرتي، بقيت منه صورة باهتة تعود في الليل البهيم، وللحظة تنقلني إلى ملكوتي كان لي أب فخر الرجال. إذا سار سارت الفرسان في ركابه، وأم تتبارى النساء في خدمتها، وكانت لي زوجة إذا ظهرت كسفت الجميلات. كان لنا حقول من النخيل وإبل وغنم وخيول عربية تسابق الريح وكروم من العنب والزيتون، إذا جاعت الدنيا أشبعناها، إذا عريت كسوناها، وإذا غزاها الغزاة حميناها …‏ يوما سافر أبي ولم يعد. اغتالوه، غدروا به في ساح المعركة، تلك سنة القبائل عندما تفقد عنفوانها، يومها التصقت أمي بالأرض حتى صارت منها وزوجتي ضاعت في الصحراء راح قلبي يبحث عنها ولم أعثر عليه حتى اليوم، في بداية تلك الأيام التعيسة تملكني الخوف ولن يفارقني أبداً، فسيوفنا لن تجرح بعد الآن ومياهنا لن تروي العطشى، لم يبق من شرفنا وكرامتنا سوى كلمات جوفاء ومن معانينا العظيمة سوى صداها يتحدانا، شعرنا صار نثراً ركيكاً وبلاغتنا ثرثرة، الأخ يذبح أخاه والجار يسطو على جاره، زوجتي ضاعت وأمي طردتني من البيت وآباؤنا يخنقون أبناءهم، استعضنا عن أسم الذي لا إله إلا هو بأصنام، فروحانيتنا لعبة دراويش وصلاتنا طقوس هجرتها الروح وكلام ببغاوي.‏ تلك هي الشعوب عندما تعود إلى السديم.
قالوا لي، أين هم أهلي؟ علام سماؤهم خرساء وقصورهم خرائب للبوم، ومآثرهم أحرف لا صوت لها ولا تقرأ؟ وكيف استبدلت ذاكرتي بأخرى صورها تدمي القلوب؟ قولوا لي: متى فقدت أهلي من ألف سنة؟ خمسة آلاف؟ أكثر على ما يبدو…‏ قولوا لي: أيمكن أن تعود إلي ذاكرتي ومعها عقلي؟ أو توجد وراء الذاكرة ذاكرة أخرى تفتح أمامي أبواب الماضي للحظة ثم تغلقها إلى الأبد؟ قولوا لي: كيف يمسخ الإنسان فيصير إلى ما صرت إليه؟‏
في الطريق إلى الطبيعة :  قالوا أنت لست إنسانا طبيعيا، يا عبد الله، أنت إنسان صناعي، على الورق وحسب … فأجاب عبد الله على الفور: ما الفرق؟ كلنا حصيلة صناعة ما، هاكم ما قاله لي صاحبي عندما أرسلني إليكم: واجه هؤلاء الناس بحقيقتهم، ومن هم أزل عن عيونهم الغشاوة التي يسترون بها غباءهم، إن وجودك بينهم قد يكون وحده كافيا لزحزحتهم عن مواقعهم المفتعلة وعندما يعرفون أنك قريبهم يفسحون لك مكان الصدارة على مكاتبهم وفي مكتباتهم …
وأضاف: ثيابكم، طعامكم، سكنكم، أنفاسكم، قلوبكم … تعد في مخابر أو معامل متخصصة ثم تقحم في أجسادكم.
- أنت تستطيع أن تنزع أي جهاز من أجهزة وجودك المادي والنفسي ثم تعيده إلى مكانه متى شئت … أما نحن…
- أنا سبقتكم، أنا بينكم طليعة، اليوم يتحكمون بالجنين وهو في بطن أمه وعند بداية حياته ويجعلون من الذكر أنثى ومن الأنثى ذكراً، وقد يضعون الطفل في المخبر، وعندما يظهر إلى النور يعتبرونه ولدا طبيعياً … وغدا؟ ماذا عن غد؟ اليوم يبدلون بين عشية وضحاها قناعتكم وعقائدكم، وأنتم تحيون حياتكم الطبيعية، وكأن الأمر لا يعنيكم. إن الإعلام المعمم هو ضرب من ضروب غسل الأدمغة المستمر، وماذا عن الغد؟ أسيصنعون الكبار كما يصنعون الصغار ؟ .. هذا مخيف، يا عبد الله.
- علام إذا أذهلكم حزني أنا؟ أنا صريح، مخلص أقول ما أحسه، قلت: أنا خائف فأنا خائف فعلا، أما أنتم فتكذبون على الله، على أنفسكم عندما تنحنون أمام كباركم وأنتم تكرهونهم. أنا لي وجه واحد وأنتم لكم وجوه، هي في الواقع أقنعة أو وجوه – أقنعة. أنا أخفقت في تجاوز عصر الرعب، ولكني حاولت فلي أجر واحد، أما أنتم فصار الرعب فيكم طبيعة ثانية حلت محل الأولى، فهذه تثأر لذاتها في تعذيب أنفسكم أو تعذيبكم الآخر الذي هو جاركم وأخوكم، أنا رأيت السلطان عشت جبروته وعرفت أنه اثنان: فرعون والمرأة وقررت أن أهرب من فرعون وأسعى إلى المرأة، فكانوا يسرقون مني امرأتي وو فرعون يكويني بالحديد والنار ويسجنني، أما أنتم فتعفرون جباهكم بالتراب أمام فرعون، وإذا لطمكم قبلتم يده، ويغيب فتدعون على اليد بالكسر، دائما يسرق فرعون نساءكم فتسرقون نساء بعضكم البعض.
- قل لنا، يا عبد الله، أنت الذي طفت العالم وعرفت أهله: هل الناس كلهم يخشون جبروت الآلة المسفسطة ويخضعون لسلطة التكنولوجيا التي لا تقاوم؟‏
- تكاد الآلة تسحق الإنسان الذي صنعها. وبالفعل فهذا يبدو أحيانا كثيرة وكأنه جعل منها غاية بذاتها إذا أعلنها تكنولوجيا، أي معيار التقدم وواحدا من المصادر الأساسية للمعقولية، إلا أن الذي صنع الآلة لم يفقد تماما سيطرته عليها وسيخضعها عاجلا أو آجلا لسلطانه، وهو شبه متأكد من ذلك، أما الذي يستهلكها فجبروتها عنده، وإن كان يستطيع تفكيكها وتحليل آلية عملها واستخدامها بالشكل الأنجع، فما تزال لغزا وقوة سحرية وبالتالي أداة بيد منتجها قد يسحقه بواسطتها، إن التكنولوجيا المتطورة هي التي تستثير فيكم – وفيّ الخوف. فهي التي تطير وتسبح وتصعد إلى الفضاء الخارجي لا أنا الذي يقوم بذلك في المنام. وكأني أقوم بعملية محاكاة سحرية كي أتجنب شرها. وتلك. على أية حال وسيلة أفضل وأقل أذى بكثير من وسائلكم أنتم الذين تداوون الخوف بمضاعفته، كمن يستدعي إبليس ليطرد إبليس. وبالفعل فأنتم تنصبون عرشاً للأشرس بينكم ليمتص الخوف الكامن في نفوسكم فيزيده؟ وتلقون الرعب الكامن في وجودكم على جاركم وأخيك‏ بتشريده وتعذيبه فيرتد الرعب إليكم أضعاف ما كان عليه …‏ بعد فترة صمت استأنفوا الحوار سائلين:‏
- قل لنا يا عبد الله، أنت الذي عشت مع صاحبك عملية التأليف إذ رأيته يركبك قطعة إثر قطعة، وبرهنت على أنك تعرف أسرار هذه الصناعة عندما اضطررت لسبب أو لآخر استبعاد عضو من أعضاء جسدك أو تعليق عمل قوة من قواك النفسية الأكثر أساسية – وهي الذاكرة …‏
فقاطعهم عبد الله قائلاً:‏ التأليف الشعري أو غيره ليس تركيبا ولا يشبه ولا بحال من الأحوال عملية بناء منزل أو صنع سيارة وإصلاحها.  فقد كنت في ذهن صاحبي عبد الله وهو اسم أي عبد من عباد الله عندنا، وهؤلاء بالألوف والملايين في العالم ن والاسم عندنا هو الهوية في جذورها الأولى، يوما صار هذا الاسم صورة جعل لها صاحبي سيرة ذاتية حددت معالم الاسم – الصورة. والتاريخ هو حياة الموجود الحي، وأما الآلة والشيء فبالأصل نموذج مجرد يحول بالحديد والأسمنت والخشب إلى واقع صناعي بالمعنى الأقوى للكلمة ويستخدم بعدها لقضاء حاجات الموجودات الحية.
قالوا : كل فن يفترض صناعة ما. وهذا الشطر الصناعي من الوجود الإنساني، أدبيا‏ كان أم طبيعيا، هو الذي يمكن تفكيكه وإعادة النظر فيه. فالمؤلف، شاعرا كان أم مسرحيا … يصلح نصه بإضافة مجازاة أو أحداث … غير التي كانت في النص الأول.
- ولكن أيستطيع صاحبي تعديل اسمي. وإذا غيره يكون قد وضع نصا جديدا … وكذلك الموجود الإنساني، فهم اليوم يتلاعبون بعواطفه ومعتقداته وغيرها … هو هو: فلان بن فلان بن فلان من الناس ..‏
- نظن أنا وصلنا إلى السؤال، موضوع حوارنا الآن وهو: أنستطيع إقامة الحد، في الموجود الإنساني، أدبيا كان أم طبيعيا، بين الصناعي والطبيعي‏
- هذا صعب إلى حد الامتناع: فالاثنان متداخلان منذ أن وجد الإنسان … إذ أن العقل الإنساني عمل دائما مع الطبيعة مرة متعاونين ومرة أخرى متصارعين. وربما إن التقدم في واحد من أوجهه كان في اتساع – مجال الصناعي- الذي يتزايد اليوم متسارعا إلى حد إرهاق الإنسان والطبيعة، على حساب الطبيعة.
- ألا ترى، يا عبد الله، وأنت موجود إنسان أقرب إلى الصناعي منك إلى الطبيعي، أما مجال الطبيعي يتقلص بسرعة فكان الصناعي سيحتل يوما الفسحة الإنسانية كلها، فالأدب، أيا كان جنسه صار اليوم صناعة أكثر بكثير مما هو فطرة، كما أن الرضيع الذي يعيش أحيانا على الفيتامينات والعقاقير الأخرى والغذاء المعد سلقا من نوع المعلبات أكثر مما يعيش من حليب أمه، هو إنسان الصناعة أكثر مما هو إنسان الطبيعة، هذا إذا تركنا جانبا، طفل الحاضنات الذي لم يعش دقيقة واحدة في أحشاء أمه.
- إذا تقلصت الطبيعة والطبيعي إلى حد كبير زال التطور والنمو، التقدم والتاريخ، الفن والإبداع … وبالتالي الإنسان وعفويته. ولم يعد ثمة حاجة للتربية … إذ إن التربية، وإن كانت بمعنى ما صناعة، وإن كانت العناصر المفتعلة فيها كثيرة، فهدفها الأول والأخير هو إغناء الطبيعة الإنسانية وتفتيح إمكانات الإنسان كلها.‏
- أيمكن أن تكون الأنا والذات، الهوية والاسم هي الطبيعة والطبيعي – في الإنسان طبعا – ومن الملاحظ اليوم أن الحداثة تعلق الذات أو الأنا، وقد تتصرف وكأنها غير موجودة.
- الأنا، الذات، الاسم، وإن كانت بينهما علاقة وثيقة وقرابة قريبة جدا، وإن كنا نستخدم المفاهيم الأربعة في حديثنا العادي وكأنها مترادفات، تشير كلها إلى الشخصية الإنسانية، فهي، في الحقيقة، متمايزة تدل كل منها على وجه من الشخصية الإنسانية غير الذي يدل عليه الآخر.
أن اتساع مجال الصناعة والصناعي المتزايد في تكوين الإنسان وطبيعته وشخصيته، جعلنا نعتقد أن الوجود الإنساني– حتى الأدبي منه – سيصير يوماً صناعاً كله. ولهذا أخذنا نطالب بالرجوع إلى الأصالة ونكثر من الكلام الفضفاض حول هذا الموضوع، وكأن الأولى بالمشرفين على تكوين الإنسان، مربين كانوا أم شعراء وأدباء وكتابا، سياسيين أم إعلاميين، أم إيديولوجيين أم غيرهم، أم يعنوا عند تكوين الإنسان – المستمر بالمناسبة مدى الحياة –بالجانب الطبيعي منذ وجوده والذي ما يزال وسيبقى أوسع بكثير من الجانب الصناعي. فالميول والرغبات والحاجات، النزعات والأماني، الإمكانات والتطلعات والرؤى، الحياتي والإرادي، وكذلك القصد والمعنى … وبكلمة كل ما يتحرك وينمو بفعل قوته الديمقراطية والحرية بإطلاق المعنى … فعوضا عن أن يضعوا الإنسان تحت الوصاية ويلقنوه ما عليه أن يقول ويعمل، عليهم – وعلينا كلنا – أن نفسح المجال، بالوسائل التربوية الحديثة والقديمة، أمام تفتح الطبيعة والطبيعي في كل مناحي الوجود، بهذا يستطيع الإنسان، فردا وجماعة أن يرجح الطبيعي في وجوده على الصناعي.
الصناعي في صورته الأكمل، هو بالأصل مجموعة دساتير رياضية وأشكال هندسية جعلت لتشكل نموذجا إجرائيا، أي قابلا للتحقيق على أرض الواقع، وكلمة "نموذج" هنا تعني صورة كاملة ومتكاملة لموجود صناعي قد يكون إنسانا آليا أو سيارة، دماغا إلكترونيا أو دراجة … فالإبداع بالدرجة الأولى في الفكرة التي تؤدي إلى وضع النموذج ومن ثم في الإعداد لتحقيقه، أما النموذج المحقق – القمر الصناعي مثلا – فألي بكليته لا مبادهة لـه، بل يعطيك ما أعده مصممه أو ما وضع فيه ( الذاكرة الإلكترونية ) وتوجد بين الصورة الأكمل هذه للموجود الصناعي وبين التربية مثلا التي قد تستخدم وسائل مفتعلة أو صناعية لتفتيح مواهب الطفل – هذا إذا كانت التربية سليمة وديموقراطية – كل التلوينات والدرجات الممكن تصورهما.‏
- اسمح لنا، يا عبد الله، بملاحظة أخيرة وهي أن الحداثة جعلت مما كانوا يرون في السابق أنه المعنى الذاتي للموجود أو لأي فعل من أفعال الإنسان القصدية، إضافة تأتي من الإنسان ذاته أو تفرضها البيئة الطبيعية – الاجتماعية. وهذا ما استدعى فلسفات العبث "سرتو وكامو مثلا" وأدب "بيكيت ويونسكو مثلا"‏
- الحداثة حضارة كاملة كلنا – أنا، أنتم، هم .. من نتاجها، ففي وجودي فسحات كبيرة هي من صميم أدب العبث نجد مثيلا لها عند العدد الأكبر من شعرائنا وكتابنا المعاصرين. ألا أن صاحبي لا ينسى أبدا أنه عربي. وكيف ينسى عروبته وهو يكتب بالعربية لقراء عرب؟ ولهذا فالعربي وكل ما يصدر عنه، شعرا كان أم سياسة، تنظيما اجتماعيا أم إيديولوجيا … تسوية بين تاريخنا وبين الحداثة التي هي السمة المميزة للحضارة التكنولوجية المبرمجة وكل تسوية هي بالضرورة تركيب هجين. ولقد شاع عندنا وحدنا نحن العرب مفهوم الأصالة عندما اختلطنا بالأمم، وفي خلفية تفكيرنا ما نزال نعتقد أن تنظيمنا الاجتماعي قبلي. وهو كذلك لحد ما وبشكل من الأشكال .. في حين أن المفهوم لم يكن من مفردات الجاهليين لأنهم عاشوا أصالتهم بنيتهم الفعلية بحد أدنى من الاختلاف مع بقية الأمم ..‏
عبد الله يعرف بأصوله :‏ قال عبد الله عندما خلا لذاته: دافعت عن الطبيعة والطبيعي في وجه هؤلاء الناس، وما أزال أتساءل عن حقيقتي، من أنا وما طبيعتي، أنا لست بدون شك موجودا طبيعيا، أأنا إذا موجود صناعي؟ ربما جزئياً أو بمعنى ما أنا صاحبي وغيره، صورة عني وشيء آخر. هذه مسألة لا ريب فيها عندي ففي خياله وجدت ومن أعماق ذاكرته انبثقت ولقد استمدت العناصر التي أتألف منها من عالمه جزئيا أو بمعنى ما أنا صاحبي وغيره، صورة عنه وشيء آخر. هذه مسألة لا ريب فيها عندي ففي خياله وجدت ومن أعماق ذاكرته انبثقت ولقد استمد العناصر التي أتألف منها من عالمه، ثقافته، وفيّ من تجربته وربما من أمانيه وتطلعاته مساحات كبيرة، إلا أن صاحبي جعل من هذه العناصر رؤية ألفت بينها وجعلت منها كيانا لـه خصائصه الذاتية المميزة. وها أنا أتكامل في الحوار مع الناس، حيث تتضح معالم وجودي، وقد برهنت في الحوار عن جدارتي بمواجهتهم … ويبقى مع ذلك سؤالي الأول هو هو: من أنا؟ ما طبيعتي؟ وهو يحيل إلي أسئلته أخرى تتفرع عنه منها: ما حقيقة الموجود الأدبي؟ أين هو موقعي من الموجودات الأدبية؟ ما الإبداع بوجه عام؟ ما فسحته؟ من أي موقع يتحدث الوجود المبدع؟ أهو الخيال وحده مبدع، كما يرى الأدباء والشعراء وبعض الفلاسفة ؟…. لن أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة ولا عن أي منها، فتجربتي المحدودة الآن لا تمكنني من ذلك. إنما يبدو لي أن الموجود اللساني، كتابيا كان أم شفويا، شعرا أم بحثا فكرياً والذي هو كيان يتألف من كلمات وعبارات ونصوص يتحدث من أفق أعمق، وأبعد مدى من الخيال، إذ إن الكلمات والعبارات ليست حيادية تتصرف بها كما تشاء، بل هي في حقيقتها تراكم دلالات ومعان، تنادينا من فسحات سابقة على التاريخ وربما على الشعور واللاشعور ..
وبعد فترة تأمل، أضاف عبد الله، متحدثاً إلى ذاته : هذه الجولة في داخلي مرتبطة بسؤالي الأول الذي يكملها ويتكامل معها، فهي تعيدني دوماً إليه وأعيد وأكرر: من أنا؟‏ كان أبي الأول بدوياً يعيش حراً طليقا في بادية الله. يعشق المغامرة فهو دوما على سفر ك أهي المغامرة للمغامرة أم لطلب الرزق؟ لا يدري … أنا مثله أرحل في الفضاء الرحب. إكرام الضيف وإيواء الغريب صارا في عادة وتقليداً، الكبرياء الشخصية والكرامة عندي فوق كل اعتبار: إنها مصدر القيم ولكنني فقدت سلاحي فلم أعد مثله قادرا على صيد الوحوش والبشر، فغزا الأجانب داري وربما داسوا أحيانا شرفي .‏ كان أبي الأول محاربا شجاعا، فتح الأقطار والأمصار، نشر فيها عبادة الذي لا إله إلا هو، ومعها الحضارات والفنون والعلوم، وكلها ما تزال حية حتى اليوم تتحداني. عرب الشعوب، علمها فن الشعر، بنى دولا ومدنا تشهد حتى اليوم على تفوقه، ولما جعلته إدارة الشعوب يستقر، مزقته الصراعات الداخلية وما تزال. وأنا مثله فارس مقدام أواجه الموت ، أموت في سبيل قضيتي، إلا أني نسيت فن صناعة السيوف اليمانية فطعنوني من الخلف ومن قدام وصرت أخاف…‏ و كان أبي الأول تاجراً يجيد المغامرة بالسلع النادرة، ينقلها من الهند إلى روما كما يجيد فن إدارة المعارك الحربية، والتجارة كر وفر، مبارزة بالمال شأنها شأن المبارزة بالسيف، ولكن تنتهي بمساومة، وحل وسط بين الخصمين تنتهي المعركة باتفاق يشبه الاتفاقات التي تعقب المعارك الحربية وممارسة أبي التجارية الواسعة كشفت لـه عن نفسيات اليسار أفرادا وشعوبا، علمته بالأحرى كيف يكتشفها. هذا ما مكنه من جمع ثروات طائلة فيها الأطيان والأراضي الشاسعة، الذهب والفضة، المواشي والإبل والخيول … وأيضاً وبالتالي الحريم والقيان والغلمان والخدم. والاقتصاد هو الركيزة التي تقوم عليها الدولة. قلت يوما: أين تبخرت هذه الثروات التي لا تستطيع إحراقها نيران الجحيم؟ أأنا الذي بددتها بطيشي ولهوي أم خسرتها لأني لم أتقن فن التجارة؟ أسهوت فسرقوها مني أم ضعفت فسطوا عليها؟ كل هذا جائز. 
ولما استقر أبي نهائيا في الوطن أضاف الزراعة إلى الفنون الكثيرة التي كان يجيدها. وصارت لـه أملاك شاسعة ومراعي خصبة، عنده فلاحون يزرعون الأرض ورعاة يسهرون على القطعان وغابات يصطاد فيها وأهراء يجمع فيها أغلاله. وكانت داره دوما مفتوحة للفقير يطعمه ،للغريب يحميه، للضيف يكرمه، ألا أننا، نحن أولاده، تخاصمنا حول تركته فجزأناها لنقتسمها وأمعنا في التجزئة أحيانا حتى التفتيت، وتصارعنا فيما بيننا حتى كدنا ننهي بعضنا بهذا صرنا لقمة سائغة سرعان ما التهمنا الأجنبي.‏ وما أزال أشعر أني أملك فنون أبي كلها. فأنا محارب وسياسي، شاعر ومثقف، تاجر ومزارع … ولكن ما السبيل إلى ممارسة هذه المواهب المضّيعة على أرض الواقع – لا في الخيال كما هي عليه الحال الآن – فتنمو وتثمر؟ هذا هو السؤال الذي أطرحه على ذاتي كل يوم. وعوضاً عن أن أجيب فأقوم بعمل منهجي مفيد أشرد مع خواطري وأحلامي فتعود إلي صور الماضي في لوحات بانورامية غنية بالتفاصيل يجسدها الخيال، يضخمها الهوى وتحولها أحلامي المجنونة إلى أساطير ممتدة وقائعها وشخوصها في الزمان والمكان. فإذا بها بسعة الكون وحجم التاريخ. عندها أرفع رأسي عاليا وأقول للناس بصوت مرتفع وأنا أخاطبهم من عل: أين أنتم من ملكوتي؟ .. إن ما تفاخرونني به من إنجازاتكم، إن هو إلا بعض من فضلاتي جدت به عليكم في يوم من الأيام، ولا أشك دقيقة واحدة في ما أقول. فالعقل والعلم والواقع يثبته، بعدها استسلم للمتع التي بحوزتي، وهي بأعداد لا تحصى أحار بأي أبدأ، ولكن لا، لا مجال للارتباك، فالمرأة هي أول اختياراتي: هذه أم تلك؟ الشقراء أم السمراء؟ كلهن رائعات، كلهن وهبن لي أبي حلالا على قلبي. وكان أبي رحمه الله يتقيد في كل أعماله بالسنن والشرائع السماوية والأرضية وعلام يخالفها، قد أتت كلها مطابقة لرغباته؟
بقية الحكاية :‏ قلت يوما وقد ثبت لنفسي: غريب أمر الخيال. لا حد يحد شطحاته عندما يضع ذاته في خدمة الغرائز. في امرأة أحبها، إنها زوجتي، عشيقتي، صديقتي، رفيقة دربي في الحياة. آية في الجمال وفي الوقت ذاته غبية ضعيفة الإحساس، لا تطرب للموسيقى ولا تحب الشعر. سيان عندها القبيح والجميل، الكريه والممتع، تستجيب لي وهي ساهية عني، بعيدة عن عواطفي الجياشة … قلت: أنصفها حي والآخر ميت؟ إلا أني أنسى كل هذا عندما أجدني قربها وأنا دوما معها، لا أفارقها ولا تفارقني، أغار عليها من عين الحسود من كيد العدو، أخاف منها وعليها فأضمها إلي، أضعها في قلبي أبحث لها عن مخبأ بين أضلاعي وأطير بها في فضاء الله وصحاريه عسى أنجو وإياها من ملاحقة الأعداء الذين يحيطون بي من كل الجهات ويسدون علي منافذ الهواء … وها هو يشمها، يستنشق أريجها يدسها، يحسها، يمس كل عضو من أعضائها، يستمتع به بكل حاسة من حواسه، أأنا في الحلم أم في اليقظة يقول: في عالم ألف ليلة وليلة، على الأرجح، ولم لا أكون من أبطال ملحمة ألف ليلة وليلة ! لقد أعادوا صياغة هذا المؤلف العظيم، أنا أعدت تأليفه ليكون من عصر التكنولوجيا الأكثر تطورا… ولما أعيتني الحيلة في حبيبتي وتملكني هلع كبير عليها وضعتها في قبو عميق وأوصدت عليها الأبواب والنوافذ فلا ترى أحدا ولا يلمح أحد مفاتنها فيسرق منها نظرة واحدة، كلها لي وأنا أزورها نهارا وليلا. ولن تفتح الأبواب إلا لي وأغلقها وأحكم تسكيرها عندما أدخل. كان أبي كريما واثقا من نفسه ومن قدرته على حماية شرفه فلم يلجأ إلى مثل هذه الوسائل الشحيحة. وما العمل فهو من قرن والعبد الفقير من قرن آخر ..‏
عتبت يوما على صاحبي لأنه جعلني هرما، وفي أحسن التقديرات على أبواب الهرم إلا أني خففت من ملامتي عندما تعرفت إلى من أراهم حولي من أهل هذه البلاد الشاسعة الواسعة والغنية بالنماذج البشرية، فليس الفرق كبيرا هنا بين الولد والرجل، بين الشاب والكهل، لكأن الشيخوخة تأتي هبنا في سن مبكرة أو كأن الإنسان قد ولد هرما، فهو جدي، حذر، على العموم عابس الوجه، يقنن من حركاته ويحسب كلماته، وعيه نما وتضخم على حساب عفويته المبدعة، فهو عنيف ولذته عدوانية، يجهل اللعب البريء والضحك للضحك كما يرى الفن للفن مشبوها، فكل عمل، أيا كان شأنه، لـه غاية اجتماعية – سياسية – أخلاقية – قومية. يحاسب الناس، ويخشى مواجهة نفسه، يتوجس شرا في كل جديد مفاجئ ويعتقد أن المستقبل أسوأ من الحاضر على الأرجح.
قال عبد الله بعد دقيقة من التأمل : و لم لا أكون – أنا – مثل هؤلاء؟ ألست صورتهم وقد أعيدت إليهم؟ وكلنا- أنا وهم وصاحبي – حصيلة تاريخ قرون وقرون، أقربها إلينا كان بائسا أورثنا البؤس الروحي والثقافي الذي نحن عليه، وبالفعل فعندما مزقنا الحروب الداخلية غزانا الأغيار واحتلوا ديارنا فككوا ما تبقى من أوصار وحدتنا وأجبرونا على التشرد، أجل أنا صورة من الصور التي كونها صاحبي عن أهله، شذرات من تاريخنا كما قرأها هو. ولم لا أكون أيضا صورة عنه وعن تاريخه الشخصي كما تراءى لـه عندما أخذ يخرجني للوجود؟ فلا يخدعنك الانسجام الذي قد تراه في شخصيتي. هذا مفعول الشعر. فأنا صورة معقدة التركيب، كأني موجود أدبي أو إنساني آخر. و بقية الحكاية هو أنه، عندما أزحنا الأجانب عن كاهلنا كان الصبر الممتد على قرون والجهاد المرير الذي ملأه، فقد أفقدنا البقية الباقية من قوانا … ولكن لم نكد نلتقط أنفاسنا فنستنشق رائحة الحرية حتى وجدتنا في مواجهة الحضارة التكنولوجية المبرمجة التي انهالت فجأة علينا – وما تزال – بسلعها وإنجازاتها المتزايدة. فلتعلم هذه الحضارة والإسهام في إنتاجها وهو الشرط اللازم – والكافي على الأرجح – لاستكمال تحررنا ووجودنا مستقبلا، هو، على ما يبدو أكثر استنزافا لطاقاتنا الروحية والجسدية وأكثر إنهاكا لنا… لقد كان لنا في معركتنا السابقة تاريخنا المجيد والذي كنا نفاخر الدنيا بإنجازاته المدهشة، ومفارقة الحضارة التكنولوجيا المبرمجة أن الدخول حقا فيها يستلزم كشرط مسبق إلغاء كل تاريخ. وعندما يفقد الإنسان كل نقطة استناد في الوجود يتملكه شعور عميق- لا شعوري أن صح التعبير – بأن الصحراء تحيط به من كل الجهات بسرابها المطلق وأن العدم على وشك ابتلاعه … ولهذا ترانا اليوم نتأرجح بين الماضي حيث جذورنا الأرسخ وبين الحاضر حيث فقد مستقبلنا، بين التاريخ واللا تاريخ إذا شئت أو تتأرجح بين حدين وجوديين كل منهما ينفي الآخر نفيا قاطعا مطلقا. ولعجزنا عن تفجير الدائرة المفرغة للخروج منها، نفجر ذاتنا في حروب أهلية تزيد من تبديد طاقاتنا وإضعافنا في معركة الوجود هذه.‏ ويضيف عبد الله في اعترافاته لذاته قائلا:‏
ما تزال الآلة الأكثر تطورا عندي بمثابة أداة وسيلة لكأن الحضارة التي أنتجتها ونتجت عنها شيء آخر يمكن أن يوجد بدونها وتوجد بدونه فأنا أشتريها بدم قلبي، أبيع كل أرزاقي لأحصل عليها وأستخدم على نطاق واسع وبأعداد وفيرة، وأعتقد في الوقت ذاته أن بوسعي غرسها في ماضي عندما يعود ووضعها في خدمته، في حين أن الآلة المتطورة – إياها- بدلت وما تزال معطيات وجودي وبناه، واقرر مع ذلك أن شيئا لم يكن، فقيمي وأخلاقي ولغتي هي هي … أو ليس ماضي صالحا لكل زمان ولكل مكان؟ وبانتظار بعث هذا الماضي، أنكفئ على لذاتي الجسدية وأرى أن المرأة، عندما تكون لي هي قمة الوجود الأمثل. فهي تعيد إلى العالم نضارته الأولى، تجعل الجو ربيعا دائما، وعندما أصطلي بنار جسدها يعود إلي شبابي. قلت يوما لذاتي في ساعة طرب ووسواس: أيمكن أن تكون حبيبتي لي وحدي حتى ولو خبأتها في جوف الأرض وحوطتها بكل تعاويذ الدنيا؟ إن حرصي المفرط هذا يجعلني عاجزا عن المغامرة ووعيي المرضي يفرز من الوسواس ما يفقد متعي نكهتها وحتى ليكاد يشطرني أحيانا شطرين متعارضين: هو وأنا والوعي في وضع كهذا شرس يخنق العفوية ويضعف الشخصية. فأنا عقيم وجدوى حياتي في حدود الصفر أحيانا. و عندما يفقد المرء الحاضر، تهيمن على الشعور صور الماضي. وعندما تغيب المرأة من سياق حياته العادية تطارده صور الأجساد العارية، وإذ يتردى فالإحساس عنده هو الحقيقة المطلقة وما عداها وهم. فخلاصة حياتي: طغيان الذاكرة وهوس المرأة.
ولكني أعرف بمعرفة أكيدة أني لست من شعب تافه ضعيف الشخصية، فالمواهب العديدة التي أورثنا إياها أبونا الأول ما تزال حية في أعماق نفوس الذين أراهم حولي وأتعامل معهم، وهم بأعداد وفيرة ومن مناطق لكل منها طابعها الخاص، يكفي أن نزيح عنها القشرة الكثيفة التي أحطناها بها من العقد والمحرمات المفتعلة كي تبعث وتنطلق فتنتج.
وأنا أعرف أن هذا ليس بالأمر اليسير. فقرون من الطغيان والحرمان التي أحكمت نسج هذه القشرة لا يزول مفعولها بسرعة. ولكن الأمر ليس ممتعا. إذ أن جذور هذا الشعب مترسخة في الأرض – كل الأرض – التي عاش عليها أجدادنا، ولم يزحزحه عنها قيد أنملة الغزو والاحتلال والتشريد والتقتيل الذي استمر دهراً، واللغة التي ننطق بها والتي هي لحمة وجودنا وسداه، قاومت وستقاوم، إلى ما شاء الله – محاولات التشويه والإبادة التي مارستها عليها شعوب الأرض وبقيت هي كما هي ترفض كل تبديل يمس جوهرها، فما الذي يعوز هذا الشعب كي يستأنف مسيرته في التاريخ؟‏
شيء واحد: التحرر الداخلي أو الثقة بالنفس أي أيضا الانتصار على الخوف إذا شئت. فالرقيب الداخلي أو الاجتماعي يستثيره الخوف الكامن في كل إنسان، ويتكون أول ما يتكون في أعماق اللا شعور. وإذا كان القهر والحرمان مستمرا امتد وانتقل إلى اللا شعور. وإذ يتملك الخوف الإنسان يتحول الرقيب الذاتي إلى مؤسسة اجتماعية تمتص الخوف وتعززه، تضاعفه ولكن تسيره في قنوات تجعله بمعنى ما مشروعا أو من مستلزمات حياة الجماعة.
إن الخائف يعرف كيف يوصد أبوابه، وينسى أن السدود المحكمة التي يشيدها حوله كلامية هي مجموعة من الأوامر والنواهي تفضح ضعفه، وسرعان ما يجتازها الآخر. ليس الغيرة أيا كان، خصما أو عدوا من حيث المبدأ، بل إن كلا منا – أنا وهو – من مستلزمات وجود الآخر. فكلانا متكاملان ويمكن أن نلتقي لقاء الند للند ونتعاون، والتوازن هنا أيضا واه. فإذا خشيته وهربت منه لا حقني. وبمقدار ما أخاف أفتح أمامه أبواب داري.‏
وبكلمة فإن عدو الإنسان يتكون فيه أول ما يتكون، شأنه شأن الأمراض الجسدية، إلا أن جرثومة الخوف أكثر فتكا بالإنسان وحالة من فتك الفيروسات الحيوانية والنباتية بالجسد، الفرق الوحيد الكبير بين الإنسان وجسده هو أن الكلمة الأخيرة في الوجود الإنساني ليست للجرثوم بل للإنسان ذاته فردا وجماعة الذي يكتب بيده كل يوم قرار قوته وضعفه، حياته وموته، الشيء الذي علينا أن نعرفه بمعرفة تتحول لتوها إلى عمل هو أن وجودنا منذ الآن في الآتي وليس في الغابر، إن فعل الوجود الذي ينشئ المستقبل هو في الحاضر وأن الماضي مضى وانقضى فهو مادة خام علينا أن نبدعها رصيدا للمستقبل ونحن نبدع المستقبل .‏

وجودي اليوم وغداً
قال يوما عبد الله وهو يتحدث إلى ذاته: ربما إني وجدت لأقول ما قلت. أنا سؤال مقلق وضع بصيغة أو رؤية كاريكاتورية. أنا من بقايا دون كيخوته، غاش دون كيخوته في نهاية عصر حاول الإجهاز عليه ليشق الطريق أمام عصر جديد. وشعر الحداثة التي أنا منه على طريقي هو، بالنسبة إلينا باكورة مستقبل آخر سيختلف جذريا عن ماضينا الطويل بدون شك. ومع ذلك سيكون إياه، لا أدري كيف. لقد أصيب شعرنا القديم أو التقليدي منذ زمن طويل جداً فصار عاجزا عن أن يقول الواقع في إمكاناته المستقبلية. فهل نتركه للتاريخ، وقد يكون ارسخ وأقوى؟ أم نجدده في إيقاعه ومعانيه ورؤيته للعالم؟ هذه الأسئلة هي التي بدأ معلمي يطرحها مع وبعد كثيرين عندما يتصورني في خياله. الجواب تمليه الرؤية، فكل رؤية تستدعي شعرا، وسيكون المستقبل للشعر الذي يحمل بذورا مستقبلية.
أنا من عالم – والعالم يتناسى، ينسونه قلقه كي لا يعود فيتمرد ويقلب أوضاعا اجتماعية ومعنوية غير مستقرة فيعرض لخطر الاستمرار في واقع يتحرك فينا، وحولنا، وقد يعيدنا يوما إذا استمر الوضع على ما هو عليه، ‘لي هامش التاريخ الذي عشنا فيه قرونا نجتر ماضينا ..‏ ذلكم هو قانون الوجود – في التاريخ – من لا يتقدم يتأخر. من لا يجتاز الطريق يسقط على جانبها.
وماذا قلت للغافلين النائمين؟‏ قلت: تراوحون مكانكم وتظنون أنكم تمشون، فأنتم تطيرون في المنام، تسبحون في الخيال وفي الوهم تعملون وتنتجون. فما لكم ليس لكم وثرواتكم لغيركم. كيف يدعي التحرر من يحمل في نفسه بذور طاغية؟ واجهوا أنفسكم أولا … كونوا صريحين مع ذواتكم. لقد جمع معلمي في أوهامكم كلها – نمقها، ضخمها، وقذفها في وجوهكم قائلا: تلك صورتكم في مرآة مقعرة. وأضاف: رأس الحكمة هنا معرفة الذات .. وبداية الخلاص، التصدي للواقع هو كما هو، وبلا مواربة. ويرجع عبد الله ما قال بسرعة ويضيف :‏
كم ستعيش أقوالي بعدي؟ لا جواب عندي – ولا عند غيري – عن سؤال كهذا. فحياة الوجود الأدبي مرتبطة بقدرته على مواكبة الأجيال المقبلة والتحدث إليها، وهذه متسارعة التبدل، فعصرنا هو عصر المفاجآت المذهلة، وكم توارى موجود أدبي جيلا أو أكثر ثم بعث حيا … وبالمقابل فإن الأكثرية الساحقة من الموجودات الأدبية تتوارى نهائيا بعد تواري الجيل الذي وضعت بوحيه ومن أجله. وهذا صحيح في كل زمان وكل مكان. ولكني لا أعتقد – وربما لا أريد أن أعتقد – بأن أقوالي قصيرة المدى. أنا شخصيا لن أعمر طويلا … هذا أمر مؤكد. فقد جعلني صاحبي هشاً ضعيف البنية وجعل من وجودي مجموعة رؤى عنيفة وأثيرية في الوقت ذاته، كل منها كالعاصفة تبدو وكأنها تنبثق من العدم، وعلى فجأة تهبط على الناس تجرفهم معها، ولا يكاد أحدهم يلتقط أنفاسه حتى تكون قد عادت إلى العدم، قلت يوما لنفسي وأنا أراجع ذاتي: أو يمكن للسراب أن يوجد؟ بلى ولكن في خيال العطشان … وللصم أن بنطق: بلى ولكن كما ينطوي الصدى؟ وللسكون أن يتحرك؟ بلى ولكن في عاطفة الملهوف، وفيعقل الذي فقد عقله. هذا وكان مع ذلك رهان صاحبي. والناس تهزهم التعارضات الحادة والمفارقات الصارخة، كما أنهم مولعون بقراءة الألغاز ولا أدري ما إذا كنت مجمع ألغاز أم مجموعة تناقضات. أجل لقد وجدت لأتحدى … وأموت.
والسلطان يريد الناس نمطين … وهو لا يركن إلا للسلوك النمطي. وأنا وكل دقيقة شيء جديد في سلوكي فكيف لا أكون مشبوها عند السلطان وحراسه ورعاياه؟ أن أتحدث إلى الغيمة، فذلك مؤامرة. أنا أرقص فذلك رسالة أوجهها إلى العدو. أن أحمل رغيفي وأهرب فأنا محتكر أتأمر على خبز الشعب … وأن ألقي نظرة إعجاب على النخلة، فهذا يعني أن أضع خطة لإشعال النار في غابة النخيل … فلم يبقى أمامي سوى أن أهزأ من هؤلاء الناس، أجل، صرت ألجأ إلى الضحك فكل سؤال يلقى علي يضحكني وأضحك من كل النقاد لسلوكي، من كل انتقاد يوجه إلي، من كل إجراء يتخذ بحقي، صار الضحك في عادة متأصلة: لا أدري ما إذا كان الضحك عندي للضحك، لحماية نفسي أم لتحدي الناس. والسلطان، سجنوني ربع قرن فضحكت، أخرجوني فضحكت، ضحكت وأنا جوعان، عريان عطشان، ضحكت وأنا ادخل السجن وأنا فيه وأنا أخرج منه، ربع قرن آخر لم يبدل حرفا واحدا في عندها أمر السلطان بشنقي فضحكت وتذكرت قول الجامعة ورأيت كل شيء تحت الشمس مضحكا فضحكت. ثم تساءلت، لم صار اليوم الضحك هستيريا؟‏ يرى عبد الله معلقا يتساءلون مشدوهين: أهو يضحك هناك أيضاً. 
ترى من يكون عبد الله؟
فاطمة على طريق الجلجلة :‏ قال عبد الله وهو يودع هذا العالم: سأروي لكم قصة قلم نجد لها اليوم مثيلاً: هي قصة فاطمة. وستقولون لي في نهايتها: ترى من تكون فاطمة؟ قال: كانت فاطمة شاهدا على عصر القتلة، عاصرته، عاشته في جسدها، حفظة تفاصيله الأدق في ذاكرتها، في تلك الأيام كانت فاطمة تجتاز طريق الجلجلة الطويل، طريق الأنبياء، شردوا، عذبوا، قتلوا فلم يستسلموا ولا لأنت لهم عود قالت فاطمة :‏
لن أدفع ضريبة الدمع للأشقياء. لم يحن بعد عصر الرثاء. وعواطفي درعي تقيني صقيع الشتاء وحر الصيف الاستوائي. رأت فاطمة في طريقها المصلين في المسجد يطلبون رحمته تعالى: وعيونهم شاخصة نحو السماء، وفي نظراتهم سؤال معلق: أو يسمح الله للقتلة بتدنيس بيته وتذبيح الأطفال وبقية الأبرياء، رأت المئذنة تحني رأسها مع التائبين. ربما صرعوا الناقوس، فلم أسمع صوتا حتى الآن، وتراه على بعد خطوات مدفونا بين الأنقاض عجبا ترى هنا يا ناقوس، قالت فاطمة فأجابها: لن أقرع للسفاحين، غدروا بالرجال واغتالوا الأبطال، لا تخشى شرا يا ناقوس الخير. سينتهي يوما عصر القتلة ويعود إليك وجهك المشرق فتعانق المئذنة التي تكون قد عادت إليها استقامتها لم تسمع فاطمة لأقوالها. أيصمت الرسل، قالت فاطمة:‏
بلى. ففي عصر القتلة يحبسون دموعهم ويلوذون بالصمت. وتمر فاطمة بجانب القتلة، تخترق صفوفهم موشحة بصمتها. لن تسمح لناظري أي منهم أن تلتقي ناظريها، لم تحتقرهم، لم تستهن بغطرسيتهم أوصدت قلبها في وجههم، اعتبرتهم غير موجودين طريقها غير طريقهم. طريقها ابعد بكثير من طريقهم. عجباً، شهقت فاطمة عندما أدركت قمة الجلجلة … يا حمامة الخير … أين عيسى ومريم؟ لم تجب الحمامة .. جمدت في مكانها .. اختنق صوتها في حلقها … سالت على خدها نقطة دم كانت قد حلت محل الدموع .‏ أمر القتلة من هنا يا حمامة الفرح؟ لن تتكلم الحمامة بعد الآن.
- لن تخشي شرا بعد الآن. فسيعود الفرح إلى هذه الديار.
التقطت الحمامة أنفاسها، بعد فترة صمت طويل، اطمأنت إلى فاطمة واقتربت منها فرأتها نائمة.
- أهي البقية الباقية من الحياة التي عمرت يوما هذه الديار؟ هذا القلب الكبير لن يموت وتسأل الحمامة.
- ترى من تكون فاطمة؟‏
 
عبد الله والعالم ـــ د.خالد محيي الدين البرادعي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق