Translate


الجمعة، أكتوبر 22، 2010

يدعي معرفتي




قصة قصيرة من الأدب التركي المعاصر - للكاتب التركي الساخر عزيز نسين
ترجمة: توفيق آلتونجي

ترجلت من السيارة ومشيت متكئا على كتف صديقي (متين ) . كان الجو حارا ورصيف الميناء مزدحما جدا. حشرت نفسي في زاوية جنبا إلى جنب معه منتظرين فتح الباب الحديدي للسياج المشبك الشبيه بقفص الحيوانات المتوحشة كي نبحر بالباخرة.
دفعني أحدهم من الخلف وولج بيني وبين صديقي (متين ثم جاء أخر ودفع بصديقي جانبا وحشر بنفسه هو الآخر بيننا وبذاك صار عدد الذين يفصلون بيننا اثنان. بعد قليل أزداد عددهم وأمسينا كل في صوب.
ناديته.
ـ لنلتق على ظهر الباخرة ........
رد صائحا من بعيد.
ـ أنت مريض فأبحث عن مكان تجلس فيه ريثما تحل على ظهر الباخرة.
كان الركاب يتدافعون فغاب عني صديقي. ناديت بصوت عال .. متيـن!
ظهر ملوحا بيده من على المستنقع البشري وسمعته يقول.
ـ سنلتقي على ظهر الباخرة.
شرع بوابة السياج الحديدي فوجدت نفسي فجأة من أثر التدافع، والذي فاق قوتها الآلف قوة ألف حصان في الصالة الفاخرة للباخرة. جلست فورا على إحدى المقاعد الشاغرة. قي غمضة عين امتلأ المكان بالمسافرين، ولم يعد هناك حتى مكان للوقوف.
كان (متين) قد غاب عن الأنظار .انتابني دوار و آلام في المعدة واسود المكان أمام عينيي.
كان هناك رجلان يجلسان قبالة أحدهم اصلع الرأس ذو عوينات بنفس عمري أما الثاني فيبدو أقل عمرا وربما في الأربعينيات ضخم ؟ وكان في يد الأول منهم إحدى الصحف التي أكتب فيها وقد فتحها على الصفحة التي كتبت فيها أحد مقالاتي قال لصاحبه.
ـ تبا لك ... أنظر إلى ما يكتب
أعجبني مديحه لي، وانتابني شئ من الخجل، فوليت وجهي صوب البحر ظنا مني بأنهم تعرفوا علي.
قال الرجل الضخم.
كيف لا يكتب ... يكتب هذا السافل ؟
ماذا كنتم تفعلون لو كنتم في مكاني. لم اكترث إلى تلك الإهانة، وكأني لم اسمعها وكان من الواضح، انهم لا يعرفونني. لذلك لا يهم ما يقال عني وراء ظهري.
قال ذو الصوت الذي يشبه صوت الخوار بعد توقف.
ـ يكتب ، يكتب هذا الساقط ولكن من يقيم كتابته ؟
كان علي أما أن أخنقه أو أقوم وأترك هذا المكان. لكنني لم أطق النهوض. حتى لو قمت من مكاني فليس باستطاعتي الحركة لشدة الزحام. قلت لنفسي "أنهم يجهلونني فليقولوا ما يشاءون"
يجب على المرء أن يتحرى هدف القائل لأن الكثير من الأحيان يراد بهذا النوع من الكلام مديحا للكاتب ولذا سوف لا أكترث بأقوالهم.
قال الأصلع بصوت عال.
ـ هل تعرفه؟
ـ كيف لا أعرفه ، طبعا أعرفه .........
نظرت إليه بإمعان. أترى هل هو أحد معارفي القدماء ؟
لكنه اصغر مني عمرا ، لا أتذكر إني أعرفه.
ـ أعرفه ، أعرفه هذا الـ ………..
قال الأصلع ذو النظارات
ـ هكذا أذن ... كنت أتصوره أدميا
من المحتمل أنهم يعرفونني في حقيقة الآمر ، ولكنهم يدعون العكس كي يستطيعوا قول ما يشاءون ؟ آنذاك ينتهي بنا الآمر في مركز للشرطة.
قال ضخم الجثة.
ـ إذا كان يود الكتابة فليكتب .... أنا الذي جعلته ادميا.
ـ اهو كذلك ؟
ـ وتلك كانت اكبر شر فعلته في حياتي.
في صغره ، كان والده صياد سمك ، وكان يسكن حينا.
أستفسر الأصلع:
ـ ألم تكن أنت من مدينه قونية ؟
ـ بلى .. والده الصياد كان يبيع السمك لان مدينتنا غير ساحلية.
كان الجمع يصغي لحديث الرجلين بإمعان ، وكان العرق يتصبب مني. آه لو يأتي متين لاذهب معه إلى مكان آخر.
ـ درسنا في نفس الصف. كان كنيته المختلق، لكثرة ما كان يحوك ويختلق الحكايات.
"لم تطأ قدماي مدينة قونية".
قال الأصلع:
ـ هذا ليس باسمه الحقيقي أليس كذلك.؟
رد صاحبه دون أي انزعاج.
ـ نعم ، أسمه الحقيقي (دورموش) . لقد كانوا أربعة عشرة من الأخوة.
أنه يصوب دون أي هدف.
ـ بعد أن مات جميعهم ولكي يتوقف موتهم أسموه (دورموش). كان معظم الطلبة يضربونه ، وكنت أدافع عنه. لا أنسى في أحد الأيام ... أدعى بأنه ساعدني بالغش، وكانت النتيجة انني رسبت في تلك السنة.
ـ طرد من المدرسة وبعد مدة شاهدته في (بي اوغلو) بمدينة أستانبول وهو ينادي "أوسمة للتعليق على الصدور" فقد كان يبيع الأوسمة فقلت له "ألا تخجل من نفسك ، ما هذه الحالة التي وصلت إليها" رد قائلا "آخ يا أخي الكبير لا تسألني ..." أخذته في الحال إلى حمام عمومي وأعطيته إحدى بدلي القديمة وبعض النقود وقلت له "عندما تحتاج لشيء فاسألني" وكان ذلك خطا أفترقته ، فقد بات لا ويتردد يوميا في طلب النقود مني ...
في هذه الفترة بدأ المستمعون بالتكاثر. وبتكاثرهم بدأ هو كذلك بإعلاء صوته لجلب الانتباه ..
ـ لماذا كان بحاجة إلى كل تلك النقود ؟
ـ كي يقامر بها يا صاحبي ... وهل يكفي النقود للقمار ؟
ـ آخ … كان إذن مقامرا ؟
أووو … كان لا يترك طاولة القمار ثلاث أيام وثلاث ليالي. مرة من المرات باع ملابس والده وقامر بقيمته فطرده والده من البيت حيث قصدني وقال "آخ يا أخي الكبير …" صفعته على وجهه … اذهب يا … وأطرد هذا القواد من بيتي.
ـ حسنا فعلت !
لا يزال عدد المستمعين في التكاثر بعضهم اقترب من المتحث حتى كاد أن يدخل في فمه.
ـ أي ... أكمل وماذا بعد ؟
ـ ماذا بعد ؟ قررت عدم استقباله في بيتي مرة أخرى.
قال أحد المستمعين البدناء
ـ هذا كله صحيح أعرفه أنا كذلك. فهو قد قامر على ملابسه. وفي إحدى الليالي كان في نادينا الليلي حيث ضرب ضربا مبرحا.
ـ يا إلهي لم ضرب ؟
ـ والله … يبدو أنه اعتدى على إحدى العاملات أو قذفها بكلام بذيء .. أو شيء شبيه بذلك.
أضاف أحد الرجال السمر من الواقفين وكان هيئة وقفته جديه ووجهه عابسا.
ـ لم يكفيه كل ذلك الضرب ، فقد أجبرت أنا كذلك على ضربه ثلاث مرات. سادتي أنه شاذ يراقب الناس خلسة ففي الليالي يتسلق الأشجار أو أعمدة التلفون أو الكهرباء وأسيجة البيوت ليراقب ما يدور في داخلها ، أدعو الله أن لا يصيب أحد بذلك المرض الخبيث. كنت في إحدى الليالي المقمرة ، أغير ملابسي في غرفة نومي، وحين ألتفت إلى الشباك رأيت أحدهم قد تسلق شجرة التين فأسرعت إلى الحديقة وأشبعته ضربا ... خر على قدمي مقبلا وقال " التوبة يا سيدي" فتركته لحاله ولكنه عاود الكرة في الليلة القادمة ...
تسائل ذو الحنك المدبب.
- وهل كنت وحيدا في غرفة النوم ؟
بعد برهة توقف أردف الرجل الذي يدعي بكوني شاذ أراقب بيوت الناس خلسة قائلا.
ـ نعم ، بحث في كل مكان عن امرأة ، فلم يجد مرامه ، فأضطر إلى مراقبتي حيث كانت بنتي وزوجها غادرا الدار لزيارة بعض الأقرباء بعد تلك الليلة المدمية " قاتله الله".
كنت على وشك أن أبصق في وجوههم ولكني كنت على يقين بان الأمور لا تنتهي بذلك فعلي الدخول في خناق معهم فإما أن اقتل أو اقتل ... لو كنت قد شاهدة واحدا منهم ولو لمرة واحدة قبل هذه اللحظة ... أيها الناس لم كل هذه الأكاذيب غير المبررة ؟
قال أحد الشباب.
ـ لكن كتاباته ممتازة.
رد الشخص الواقف بجانبه.
ـ وماذا يعني ذلك يا بني. إذا كنت ساقطا أخلاقيا ... الأخلاق أولا.
قال شيخ نحيف كالعصا.
ـ مع كل الآسف انهم عينوه صحفيا والادهى بأنني مسؤول عن هذه المصيبة المسلطة على رقاب الخلق ، حيث كنت أنا الذي وضعت القلم في يده لأول مرة.
ـ إذن تعرفونه ؟
ـ عز المعرفة ... أقول لكم يا سادة أنا الذي جعلته صحفيا
كنت في تلك الأيام أصدر إحدى الجرائد في مدينة (بيرجيك) فاجأني شاب ، وطلب العمل عندي. رأفت بحاله ، وأذعنت للشيطان. عينته في إحدى الوظائف. وقلت له: تعال لأجعلك صحفيا فتعيل بذلك نفسك وتدعو لي الدعوات الصالحات ... آه لو كنت لم افعل كل ذلك.
ـ نعم ... فهمت لتوه فقد جاءني بعد أن كان قد عمل عندك في (بيرجيك).
لقد طاف الكيل، ولم أعد أتحمل المزيد .ولم يبق لي سوى الهرب من هذا المكان أو البصق في وجوههم. الأفضل أن أترك المكان فليقال ما يقال في غيابي. كل ما هنالك أتني قد مررت من محطة قطار مدينة (بيرجيك) خلال سفراتي ... نهضت من مكاني. فإذا بأحدهم يجلس فورا في مكاني ، كان المرض قد افقدني قدرة الحركة ، وكان الازدحام شديدا ، فلم استطع أن أخطو خطوة إلى الأمام وبقيت متسمرا في مكاني.
كان ذو الصوت الخواري لا يزال يروي حادثة كنت فيها قد قبض علي متلبسا في إحدى دور الدعارة حيث هربت عاريا في حين كان صاحبه يلتقط الكلام من فمه ليضيف ويزيد بقوله باني أكتب الكتابات المستهجنة لكي ينحرف الشباب وانشرها تحت أسماء مستعارة وهو بنفسه قد نصحني عدة مرات بعدم الكتابة ، وحين عجز عن ردعي ، طردني ولم يكلمني بعد ذلك. اليوم وفي رواية أخرى استلمت مبالغ نقدية من الحكومة لإيذاء أحزاب السياسية المعارضة بكتاباتي.
ـ هل كل هذا صحيح ؟
ـ نعم ... كم مرة لم يفعل ذلك ...
أأكون مصابا بمرض انفصام الشخصية دون علمي ؟ أستمع إلى مغامراتي يرويها الآخرون. كل شرور الدنيا مجتمعة عندي. وكل هذا الجمع من الرجال الذين لم أشاهدهم ولو مرة واحدة في حياتي ، كلهم يعرفونني عن كثب. قدموا لي العون والهداية ولم أفلح وبعد ذلك أما صفعوني أو طردوني شر طردة . أمن الممكن انهم يتحدثون عن شخص غيري أنا ؟
سألت أحد رواة مغامراتي التخريبية.
ـ عن من تتحدثون ؟
أشر إلى كتابتي في الجريدة التي بحوزته ونطق باسمي المكتوب وقال.
ـ عن هذا ... هل تعرفونه أنتم كذلك ؟
ـ أعرفه.
ـ انظروا ، أن هذا الرجل المحترم يعرفه كذلك.
ألتفت القوم صوبي.
ـ كيف هو هذا الرجل ؟
ـ ليس بشخص مقبول ...
حاولت شق الجموع المزدحمة والخروج حينئذ شاهدت صديقي (متين) وقد لمحني من بين الناس ونادى.
ـ يا سيد ... يا سيد
قلت "نعم" وخشيت من ينكشف أمري فيخجل كل هذا القوم الذين يعرفونني ويقذفوني بشتى الشتائم. ولذا قررت السكوت.
كان متين لا يزال يصرخ يصوت عال.
يا سيد .. أنت
لم ألتفت إليه وقلت في نفسي متى تقترب الباخرة من رصيف ميناء ( قاضي كوي) فأترجل ويكون خلاصي لأفهم متين عن كل ما قد حصل.
حين رأى متين عدم مبالاتي شق صفوف المسافرين غاضبا ووصل إلى حيث كنت واقفا.
ـ ألا تسمع صراخي يا هذا ؟
نظرت إليه بإمعان وقلت.
ـ ما بك يا هذا ؟
ـ عجيب.
ـ أي سيد تنادي ؟ هل تشبهني بشخص ما ؟
ـ عجبا ألم نصعد سويا إلى ظهر الباخرة الآن ؟
كان الجمع قد ألتفتوانحونا.
ـ عجيب.
ـ أي سيد ؟
ـ ألم نكن معا في إحدى دور السينما ؟ مرضت فساعدتك قي ركوب السيارة ؟
ـ أنت مخطئ أيها السيد.
ـ سأجن ... أخي ، أنت .. ألست كاتب مقالات صحفية .. ؟
ـ كلا.
ـ ماذا ؟
ـ رجاء أيها السيد.
ألتفت إلى الواقفين وقلت.
ـ أرجوكم يا سادة أنتم تعرفون ذلك الكاتب فهل هو أنا ذلك الرجل ؟
قال الرجل ذو السحنة العابسة.
ـ أستغفر الله .. لستم أنتم.
رد ذو الصوت الرخيم.
ـ ليس هناك أي تشابه بينكم فهو طويل وأشقر.
ـ كلا يا سيد لا توجد شبه بينكم ولا حتى قليلا.
ألتفت إلى متين وقلت.
ـ أرأيت أنت تشبهني بأحدهم.
ـ سحقا ...
قالها ثم أنصرف.
دنت الباخرة من الميناء ، فناولت بطاقتي للجابي. كان الأصلع ورفيقه لا يزالان يرويان مغامراتي.
لم يكلمني صديقي متين بعد ذلك اليوم ولم يتسنى لي رواية حقيقة ما حصل.



عن المجموعة القصصية "محمود ونيكار" باللغة التركية من منشورات دار (ادام) ،  1983




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق