Translate


السبت، أكتوبر 23، 2010

رائحة الخبز - قصة روسية مترجمة



رائحة الخبز
وصلتهم البرقية فى الأول من يناير. كانت دوسيا فى المطبخ حينذاك، فاتجه زوجها ليفتح باب الشقة: فى ملابسه الداخلية، مخدراً من جرعة المشروب الصباحية، لا يستطيع أن يقاوم التثاؤب، وقع باستلام البرقية وهو يفكر: ممن يمكن أن تكون هذه التهنئة؟ وهكذا، وهو يتثاءب انتهى من قراءة تلك البرقية القصيرة التى تعزيه فى وفاة والدة دوسيا: العجوز التى تناهز السبعين فى القرية النائية.
"ليس هذا وقتها !" ـ فكر مفزوعاً، ونادى زوجته. لم تبك دوسيا، فقط أصبح لونها شاحباً قليلاً، واتجهت بعد ذلك إلى الغرفة عدلت من وضع المفرش على المنضدة وجلست. وألقى زوجها نظرة زائغة على بقايا المشروب فى الزجاجة القائمة على المنضدة، وصب لنفسه وعب. ثم فكر، وصب لدوسيا كأساً. قال لها:
ـ اشربى ! يخرب بيت رأسى سينفجر. أوه.. أوه. سنلحقها جميعاً. ماذا ستفعلين؟ هل ستذهبين إلى القرية؟
لزمت دوسيا الصمت، ومسحت المفرش بباطن يدها، ثم تجرعت الكأس، واتجهت إلى السرير كالعمياء، ورقدت. وبعد دقيقة صمت تمتمت:
ـ لا أدرى.
اقترب زوجها منها وتطلع إلى بدنها المكور الممتلئ.
ـ طيب .. ما العمل؟ ما الذى يسعنا عمله ! ـ لم يدر بعد ذلك ما الذى يمكن قوله، فعاد إلى المنضدة وصب لنفسه كأساً أخرى: ـ لها الجنة. مسيرنا كلنا إلى هناك.
ظلت دوسيا طيلة اليوم تتمشى هامدة داخل الشقة. رأسها مصدع، ولم تقم بزيارة من ينتظرونها. ساورتها الرغبة فى البكاء، ولكنها لم تستطع البكاء، كانت ببساطة حزينة فحسب. لم تر دوسيا أمها منذ خمس عشرة سنة، وكانت قد غادرت القرية قبل ذلك ولم تعد تتذكر أبداً ـ تقريباً ـ شيئاً من حياتها الماضية. وعندما كانت تتذكر شيئاً كان ذلك على الأغلب من طفولتها المبكرة، أو لحظات مرافقة الشباب لها من نادى القرية إلى البيت عندما كانت شابة.
أخذت دوسيا تقلب الصور القديمة، ومن جديد لم تستطع البكاء: كان وجه أمها فى كل الصور متوتراً وغريباً، وعيناها جاحظتين، وذراعاها الثقيلتان الغامقتان مسدلتين إلى جنبيها.
فى الليل تحدثت دوسيا طويلاً مع زوجها، وهى راقدة على السرير، ثم قالت له قرب النهاية:
ـ لن أسافر إلى القرية ! إلى أين أذهب ؟ الجو بارد هناك الآن .. أما الأشياء البالية الباقية هناك فالأرجح أن أقاربنا قد تخاطفوها. أقاربنا هناك كثيرون بما يكفى. كلا .. لن أسافر!

انقضى الشتاء، ونسيت دوسيا أمها. وكان زوجها يعمل بشكل جيد، وانغمس الاثنان فى غبطة، وصارت دوسيا أجمل وأكثر امتلاء. لكن مع حلول شهر مايو تلقت دوسيا خطاباً من ميشا ابن أختها. وكان واضحاً من خط ميشا المائل على الورق أن أحداً من الكبار أملى عليه الخطاب. نقل ميشا لخالته دوسيا التحايا من الأقارب الكثيرين وكتب أن بيت جدته وأشياءها فى الحفظ والصون وأنه لابد من حضور دوسيا إلى القرية.
قال لها زوجها:
ـ سافرى! اذهبى. ولا تجهدى نفسك، بيعى كل الأشياء التى ستجدينها هناك بسرعة، وإلا فإن الآخرين سيستخدمونها، أو أن الكلخوز سيضع يده عليها.
وسافرت دوسيا. لم تكن قد سافرت منذ زمن بعيد إلى أى مكان. وكانت المسافة طويلة، فتمكنت كما ينبغى من الاستمتاع بالطريق، وتحدثت وتعرفت إلى كثيرين فى القطار. ومع أنها أرسلت برقية إلا أن أحداً لم يكن فى استقبالها. واضطرت إلى السير على قدميها، لكنها وجدت متعة فى ذلك. كان الطريق مرصوفاً متساوياً امتدت على جانبيه حقول اقليم سمولينسك العزيزة محفوفة عند الأفق بأحراش سماوية اللون.
وبلغت دوسيا قريتها بعد ثلاث ساعات، وتوقفت عند الجسر الجديد المقام فوق النهر وتطلعت أمامها. كبرت القرية بشكل ملحوظ، وانتشرت بعرضها المزارع إلى درجة كان من الصعب معها التعرف إلى القرية.  ولم تسترح دوسيا إلى ذلك التغيير. مضت بعد ذلك فى الشارع تتفحص وجوه المارة فى طريقها، وتحاول أن تخمن من عساهم أن يكونوا. لكنها لم تتعرف إلى وجه أحد. إلا أن الكثيرين تعرفوا عليها، وتوقفوا، وأعربوا عن دهشتهم لأنها كبرت هكذا.
وسعدت الأخت بقدوم دوسيا، بكت قليلاً ثم هرعت تعد سيماور الشاى. وأخذت دوسيا تخرج الهدايا الصغيرة من حقيبتها. ونظرت الأخت إلى الهدايا ثم سالت دموعها مرة أخرى واحتضنت دوسيا. أما ميشا الصغير فكان جالساً على الكنبة مندهشاً:  لم تبكيان ؟
وجلست الأختان تحتسيان الشاى، وعلمت دوسيا أن الأقارب قد تقاسموا فيما بينهم الكثير من الأشياء التى تركتها أمها. أختها أخذت الخنزير، والبقرات الثلاث، والماعز، والدجاج. فى البداية تضايقت دوسيا ـ فى نفسها ـ ثم نسيت، ولاسيما أن الكثير ما زال موجوداً، وخاصة البيت نفسه. وبعد أن انتهت الأختان من شرب الشاى وشبعتا من الحديث اتجهت الاثنتان إلى البيت لمشاهدته. وكانت الضيعة الصغيرة الملحقة بالبيت محروثة. اندهشت دوسيا، لكن أختها قالت إن الجيران هم الذين حرثوها لكى لا تضيع فرصة غرسها. ولم تجد دوسيا البيت بالوسع الذى تصورته والذى تذكره به. كانت الشبابيك مسمرة بألواح خشبية، ومن الباب تدلى قفل حديدى. ظلت الأخت تحاول طويلاً فتح القفل، ثم تقدمت دوسيا تجرب، ثم أختها مرة أخرى، وتعبت الأختان حتى فتحتا القفل.
كانت الظلمة تعم البيت، والضوء يتسرب بالكاد من الشبابيك عبر الألواح الخشبية، والرطوبة تنشع من جو البيت الذى بدا مهجوراً، إلا أن المكان كان يعبق برائحة الخبز: الرائحة المقربة للنفس منذ الطفولة. ودق قلب دوسيا. وراحت تذرع أرض الغرفة، تجول فيما حولها بعينيها اللتين أخذتا تعتادان العتمة. كان السقف منخفضاً بطلاء بنى غامق، والصور مازالت معلقة على الجدران، ولكن الأيقونات اختفت ماعدا واحدة، واختفت المفارش المطرزة من فوق المدفأة والصناديق.
عندما صارت دوسيا وحدها فى البيت فتحت أحد الصناديق فانبعث منه عطر أمها. فى الصندوق طويت جونلات قديمة غامقة اللون، وفساتين بلا أكمام ومعطف حائل اللون من صوف الخرفان. أخرجت دوسيا كل هذا، ألقت عليه نظرة، ثم خرجت من البيت ودارت حوله، وحدقت فى الحوش الفارغ، وبدا لها أنها شاهدت كل هذا من زمن بعيد فى حلم ما، وأنها تعود الآن إلى ذلك الحلم.

تدفق الجيران على دوسيا ما أن سمعوا أنها تبيع لوازم البيت. كانوا يقلبون ويتفحصون كل شىء بدقة، ولكن دوسيا لم تكن تطلب الكثير، ولذلك بيعت الأشياء بسرعة. المهم هو البيت! وعرفت دوسيا بأسعار البيوت، ودهشت، وأحست بالسعادة لارتفاع أثمان البيوت. وعلى الفور وجدت ثلاثة مشترين، اثنين من نفس القرية، والآخر من قرية مجاورة. لكن دوسيا لم تتسرع فى بيع البيت. كانت تخشى أن تكون أمها قد أخفت بعض المال فى مكان ما بالبيت. وفتشت عن ذلك المال ثلاثة أيام متصلة: دقت على الجدران، وتحسست مراتب النوم، وهبطت إلى القبو، وصعدت إلى العلية، لكنها لم تجد شيئاً. وعندما اتفقت دوسيا مع المشترى على السعر اتجهت إلى إدارة المنطقة، وسجلت عقد البيع فى الشهر العقارى، ثم أودعت المبلغ فى دفتر توفير، وعادت بعد ذلك إلى القرية محملة ببعض الهدايا لأختها، ثم أخذت تهيئ نفسها للسفر إلى موسكو.
عصر ذلك اليوم اتجهت الأخت إلى المزرعة بينما تأهبت دوسيا لزيارة قبر أمها بصحبة ميشا الصغير. كانت السماء مغطاة بغيوم كثيفة تفرقت مع حلول المساء، ما عدا أفق تلك الناحية التى سارت صوبها دوسيا وميشا، فقد ظلت عالقة هناك سلسلة سحب رصاصية متوردة، بعيدة وغائمة كأنها وراء الشمس.
على بعد كيلومترين من القرية التف النهر بشدة فى شكل أنشوطة، وعلى الشط الأيمن المرتفع قامت المدافن كأنما فى قلب شبه جزيرة. فى وقت ما كانت تلك المدافن محاطة بجدار من الطوب الأحمر، وكانوا يدخلونها من بوابة عالية مقوسة، وبعد الحرب استخدموا طوب الجدار المنهار فى البناء، ولسبب ما أبقوا فقط على تلك البوابة، وتفرعت الطرق إلى المدافن من كل ناحية.
فى الطريق استفسرت دوسيا من ميشا ـ بهدوء ورصانة ـ عن المدرسة التى يتعلم فيها، وأيام العمل فى الكلخوز، ورئيس الكلخوز، والمحاصيل، إلى أن لاحت معالم المدافن القديمة مضاءة باحمرار الشمس المنخفضة. وعلى جانبى المدافن حيث ارتفعت الجدران يوماً ما ونمت أشجار الورد البرى، ترامت المقابر القديمة جداً التى فقدت منذ زمن بعيد هيئة المقابر. وغير بعيد ارتفعت بين الأحراش جدران مطلية حديثاً برزت وسطها شواهد خشبية قصيرة على القبور الجماعية لشهداء الحرب ..
وتجنبت دوسيا وميشا المرور من البوابة، وانعطفا يميناً، ثم يساراً. وبين أشجار البتولا المزهرة، والأحراش التى يفوح عبيرها بحدة، بهت لون دوسيا شيئاً فشيئاً، وانفتح فمها قليلاً.
ـ هذا قبر جدتى.
قال ميشا. وشاهدت دوسيا ركام قبر كساه عشب نادر حاد الطرف برز من الطين الجاف. ورأت دوسيا علامةً خشبيةً بلون رمادى مشوب بالزرقة يرتفع فى الجو منحرفاً، لم يعده أحد لموضعه منذ ذلك الشتاء الذى دفنوا فيه الأم. وصار لون دوسيا أقرب إلى البياض، وأحست فجأة كأنها تلقت طعنة خنجر أسفل صدرها فى القلب تماماً. ولطمت روحها كآبة سوداء، فأحست أنها تختنق، وارتجفت، ثم صرخت مهتاجة، ووقعت على الأرض زاحفة على ركبتيها نحو القبر وأجهشت فى بكاء حار وكلمات لا يدرى أحد من أين جاءتها حتى أن ميشا أحس بالفزع. ولولت دوسيا بصوت خفيض:
ـ آه.. آه.. آه..
ثم سقطت على القبر بوجهها، وغرست أصابعها بعيداً فى الأرض الرطبة:
ـ يا أمى يا حبيبتى .. يا أمى .. يا من لا مثيل لك .. آه .. لن ألقاك فى هذه الدنيا بعد، لن ألقاك أبداً. أبداً. كيف سأعيش بدونك؟ من الذى سيدللنى؟ من الذى سيطمئننى؟ يا أمى .. يا أمى .. كيف تفعلين هذا ؟ وبكى ميشا من الخوف وصاح وهو يجذبها من أطراف كمها:
ـ خالتى دوسيا .. يا خالتى.
وتحشرج صوت دوسيا، وأخذت تقوس ظهرها، ثم راحت تخبط القبر برأسها. وانطلق ميشا هارباً نحو القرية.
بعد ساعة حينما عمت الظلمة العميقة هرع البعض من القرية إلى دوسيا. ووجدوها راقدة فى نفس المكان لا تعى شيئاً، لم تعد تستطيع البكاء، أو الحديث، أو التفكير، فقط كانت تئن من بين أسنانها التى أطبقت عليها بشدة. وكان وجهها أسود من تراب الأرض مرعباً.
أوقفوها، ودلكوا لها صدغيها، وأخذوا يطمئنونها، يقنعونها، وساقوها إلى البيت، ولم تكن تدرك شيئاً مما حولها، كانت تتطلع إلى المحيطين بها بعينين كبيرتين متورمتين، وبدا لها أن الحياة ليل. وعندما أوصلوها إلى أختها فى البيت مشت حتى السرير بالكاد وتهاوت فوقه ونامت على الفور.
فى اليوم التالى عندما تأهبت دوسيا للسفر إلى موسكو، احتست الشاى مع أختها عند الوداع. وكانت مرحة، وحكت عن شقتها الرائعة فى موسكو، ووسائل الراحة المتوفرة بها.
هكذا سافرت دوسيا مرحة، ورصينة، كما أنها منحت ميشا عشرة روبلات.
بعد أسبوعين فتحوا بيت الأم العجوز، مسحوا الأرض، ونقلوا الأثاث إليه .. وأخذ أناس جدد يعيشون هناك.

هناك تعليقان (2):