Translate


الأربعاء، أكتوبر 27، 2010

الادب الساخر عند الجاحظ



ما هو الادب الساخر ولنأخذ كتاب الجاحظ (البخلاء) مثالا على ذلك:
القصة : زبيدة بن حميد الموجودة صفحة 73
(وأما زبيدة بن حميد الصيرفي فانه استلف من بقال كان على باب داره درهمين وقيراطاً، فلما قضاه بعد ستة أشهر، قضاه درهمين وثلاث حبات شعير، فاغتاظ البقال فقال: سبحان الله أنت رب مئة ألف دينار، وأنا بقال لا أملك مئة فلس، وإنما أعيش بكدي، وباستفضال الحبة والحبتين، صاح على بابك حمال والمال لم يحضرك، وغاب وكيلك، فنقدت عنك درهمين وأربع شعيرات، فقضيتني بعد ستة أشهر درهمين وثلاث شعيرات؟
فقال زبيدة: يا مجنون اسلفتني في الصيف فقضيتك في الشتاء، وثلاث شعيرات شتوية ندية، أوزن من أربع شعيرات يابسة صيفية، وما أشك أن معك فضلاً).

يدل النص على قدرة الجاحظ على اختزال المعاني و استخلاص العبر، فتجد في نصه خصوبة المعاني و دقة في التصوير و استقامة المعنى بالإضافة إلى جمال الألفاظ.
فالأسلوب سهل ممتنع ، و ظريف يشد القارئ لمتابعة الحد المتحرك في القصة و إلى سبك العبارات و عذوبتها في آن واحد.
كما ان أسلوب الجاحظ هنا يتميز بالحيادية حتى في الحديث عن الصفة الإنسانية المتعارف على قبحها (البخل) ، وغرض حياديته بيان أنه يقف متوسطًا بين السلوك وعكسه فيشعر القارئ من موقع الحكمة بأنه يعرض المشهد نفسه من غير أن يلونه بأي مزاج أو انفعال ، وهي المقارنة بين هؤلاء البخلاء وجهًا لوجه ، وينصفهم حتى أن يحكي دفاعهم عن أنفسهم و حججهم التي يبررون بها عملهم بذات اللهجة المخلصة ، نفسها التي يحكي بها هو!
و من خلال هذه النقطة ، نجد الجاحظ يحكي عنهم فيملأ قلب القارئ سخرية منهم و ينفس عن بعض الشعور بالضغينة نحو سلوكهم.
فالنص الساخر هنا ، لا يعبر عن نكتة للضحك ، بقدر ما يعبر عن نقد سلوك حضاري لفئة من المجتمع فيها ليحرك كاميرا القلم لتصوير مشهد بيئتهم ، و طبائعهم ، ومظاهرهم ، وظواهرهم ، وروائعهم ، وتبريراتهم !
فإن كل سلوك إنساني لابد و أن يحاول ايجاد الغطاء الشرعي الفكري له ليقابل به الإتجاهات الأخرى فالجاحظ تكلم عن نماذج وشخوص مثل "زبيد بن حميد" و هم أحياء يتحركون و يتكلمون بلغتهم و يكشفون عن أنفسهم وهم عادة أصحاب جدل. ومن هنا فإن الجاحظ يسخر أشد السخرية من هذا التبرير من خلال لغة رصينة تغلب عليها الحكمة لا الإنتقام ، حيث نجد الجاحظ منفتحًا على البعد الإنساني من خلال نماذج (البخلاء الطيبين الأذكياء) حتى أن النفس لا تشمئز منهم كأشخاص ، وهذا ما يدل على شخصيته المرحة.
الجاحظ وهو يسلط عدسته بدقة و حسن اختيار في هذا الكتاب الكبير على جزئية صغيرة من جزئيات النفس ، فيقلّبها و يتفنن في سبر أغوارها ، يعمد إلى أسلوب يستخلص في براعة و صيغة منهجية راقية في التحليل النفسي بما رصده من أعمال شخصها و دقق في كشف بواعثها و أغراضها.
أسلوب الجاحظ الذي اعتمد التبسيط – وهو ما يناسب جو الفكاهة - ساهم في جعل تعابيره بليغة جذابة قوية التأثير و واضحة المعالم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق