Translate


الأحد، أكتوبر 31، 2010

القميص



قميصي ملقى على طرف الفراش . نظرت إليه ثم عدت ثلث قرن إلى الوراء ..
كنا في مقتبل العمر ، أنا وأصدقائي ، يبحث كل منا عن مستقبله ويحلم بالأيام القادمة ، متأكداً من أنه سيفعل المعجزات ، ويجتاز بحر الظلمات ، ويتفوق على الآخرين وينجز مالم يستطع أحد إنجازه حتى عصره هذا ..
كان صديقي الأسمر ، ابن الأم الساذجة ، والأب القابع في ركن قديم ، يحلم بأنه سيكون رجل علم لامع ، وينقذ عائلته من فقرها وبؤسها ، ويتزوج من فتاة شقراء طويلة ساحرة الشكل والقوام .. هذا الصديق الأسمر، تزوج من قريبة له، سمراء سوداء، قبيحة الوجه واللسان، ذات منطق معكوس، وصاحبة كلمات كالسياط .. وترى نفسها زينة عصرها ..
وكان صديقي المربوع الهادئ الواثق ، يبحث من خلال يتمه عن مستقبل مضيء وشهادة عليا وتواصل مع الناس ، عن أمل كبير .. هذا الصديق بحث عن زوج تحمل كافة أبعادها ، من حيث اليناعة والجمال والبيئة والمال .. غير أنه لم يكد يطأ الخطوة الأولى حتى انهار جدار الحياة ، وانتقل منحسراً إلى عالم آخر تاركاً كل شيء لعصف الأعاصير ..
استعرضت عددا من أولئك الزملاء والأصدقاء، وعيني على القميص الملقى على طرف الفراش ، وتذكرت الذي ارتكب خطأً أحمق ظاناً بنفسه الحق المطلق ، فدفع حياته كلها ثمناً لذلك .. كما استعدت قصة الذي بحث عن مجد في الرياضة أو في الدراسة أو في المال ، أو حتى في الاحتيال ، فلم أجد من نصرته الحياة على نفسها .. حتى لوغضت الطرف برهة ً ، فهي أبداً لن تتركه يتجاوزها .. وهكذا كان.

قميصي ملقى على جانب الفراش وحيداً وعيني فيه !.
جعلت غرفتي دافئة مثل قلبي .. منذ ثلث قرن وأنا أدفيء غرفتي وأرسم الكلمات .. وكثيراً ماتتلون الكلمات بلون الشعر الأسود ، أو بلون الشفة الأحمر ، أو بلون الخد الوردي ، أو بلون دفء الفراش ..
القميص مفكوك الحزام .. ذليلاً ملقى على جنب الفراش ، وهو في غرفة دافئة ، لكنه لايتحرك .. ليس فيه حياة .. توقف نبضه منذ زمن طويل .. وغفا في نوم عميق .. وهاجر إلى الأحلام .... يسير في النهار بين الناس متنقلاً من حقل إلى حقل ، أو من آلة إلى آلة ، أو من مكتب إلى مكتب ، أو من سيارة إلى سيارة ، يعاشر كل الأجناس .. لكنه كان يعود دائماً إلى غرفته الدافئة ليلقى على جانب الفراش وحيداً ، منسياً كالفقراء ومنبوذاً كالمغضوب عليهم ، كأنه أصابه مس أو صار من غير إحساس ..
حدقت في قميصي ، تذكرت أترابي ، ثم قلت: إنهم جميعاً مثل هذا القميص .. خِيط القميص بابتسامة ، وقد كان في يوم ما يبحث عن مجد ٍ وعن حب ٍ وعن كرامة !. ثم طار الزمن ، رحل أصدقائي إلى المجهول ، أو غابت رؤاهم وسكنوا ساحات التعذيب في الحياة .. والناجح كما يراه الناس ، بالجاه والمال ، قد فقد إبناً أو تاه في بحر السفاهات ، أو صار تندّراً في الحكايات .. والفاشل كما يراه الناس ، في الجاه والمال ، لم يأبه الآخرون له ، بل أصبح بطلاً للحكايات المحكيّة المنسية ، وزعيماً فريداً على نفسه ، يمارس العنتريات ، ولا أحد يدري متى يبكي ، ومتى يضحك ، ومتى يردد الصلوات ..
تذكرت أصدقائي وعدت إلى الزمن الحافل بالأحلام .. يوم أن كتبت ُ عن مستقبل الأيام، ونشرت أول قصة منذ أربعين عاماً.. حيث كنت أتحدث عن البطولة والمقاومة، وعن وحدة العرب الأشاوس ، وعن مجتمعات أفلاطون ومدنه الفاضلة ! تحدثت كثيراً ، لكنني كنت أقترض الأحلام من أوهام ، فكل ذلك لايذكره أحد ، ولا يتذكر أحد في أعياد الميلاد أن جيلنا كان يؤمن بالعروبة الجيّاشة .. لأن أحلامه قد ألقيت في سلال المهملات .. وأصبحت تاريخاً يحكى ولا يحكى .. فنحن الآن ليس عندنا الوقت الكافي للبحث في الترّهات ، حيث أن الآن عصر الفضائيات ، وحيث أن الآن تسويق السلع بدءاً من الأفخاذ والبطون والغنجات .. وانتهاء بالعقائد والسياسات ..
ليس عندنا زمن لقراءة مثل تلك الترّهات .. فعندنا المجون والجنون ، ومسلسل قابيل وهابيل مازال يذاع في حلقات ..
قميصي ملقى على جانب الفراش ، مثل كل ثمين يباع رخيصاً ، على عكس ماتفعل بلاد العميان والراقصات ، إذ ْ أن هناك يباع كل رخيص ثميناً ..
قميصي صار رمزاً للحرية ، وصار رمزاً للقهر وللعبودية ، ورمزاً للإحباط الماثل في الأعماق .. وعلماً يرفرف في الآفاق .. وكأن قميصي جرح ينزف وناي يعزف .. غير أن العيون قد عميت ، والآذان قد طرشت ، فكأنه لم ينزف ْ وكأنه لم يعزف ْ .. فانكمش َ، انكمش القميص وتحرك ضمن الألم ، فسقط عن الفراش وافترش الأرض .. وبحث عن الموت ..
هذا القميص له مأساة ! .
عندما يتحدث بطل المسلسل .. انتبهوا : أنا لاأتحدث عن بطل الحياة ! .. عندما يتحدث بطل المسلسل عن لوعة غرامياته ، وأيام فالنتينو ، والنجاح في المغامرات ، عندها تنصت الأحياء والأموات .. وعندما يجعر المغني من قاع بطنه ، تتحدث عنه الصبايا الفاتنات ، وعندما تهتز أركان الحيطان لزمجرة أصحاب السلطان ، تتغير الألوان .. مأساة قميصي أنه : أين هو من كل هذا ؟!.. فقميصي سلاحه الدفء والمحبة ! .. قميصي يعزف على وتر الوجدان .. وقد ظل كل عمره يبحث عن موطن يسكنه الحق والإيمان ..
غرفتي دافئة ، ينتثر فيها العطر من كل ورد في البستان .. فرشي دافئ وطري كالماء .. وناعم كرشات السماء .. وطاهر طهارة الأنبياء .. عاشق في الصيف وفي الشتاء .. لكن غرفتي لايسكنها أحد غيري .. أنا وقميصي .. قميصي الذي تعلم الشقاء .. ليس لأن قلبه بارد ، وليس لأنه بلا رداء .. بل لأنه تعلم أن في الحياة لايوجد شيء اسمه وفاء ..
عند المساء تذكرت كيف حارب أصدقائي في الدنيا ، وكيف انبهرنا بالسراب .. وكيف ، عندما تنتشر القبور ، لاتسمع غير النباح وغير المواء ..
ثم تعلمت أنني ، مهما قدمت ومهما أعطيت ، فكأنني ماصنعت وما فعلت .. فقد رحل الضياء .. وقد جاء الشتاء ، وقد حلت المواسم التي لايصح فيها إلا البكاء ..
عرف قميصي أنه كان وحيداً سيبقى .. وأن الغرفة الدافئة تبقى وحيدة ، ولن يأتي أبداً موسم الحب ولا موسم الربيع .. فقد رحل الجميع وحل الصقيع ..
قميصي أحس بالوحدة ، وعاش عمره في الغربة وهو على طرف السرير ، فقرر أن يلوذ بالأرض ، فهي الأجدى والأجدر في النهاية ! .. وبدلاً من أن يدخل القميص مسرحاً للحب ، وينعم بالقبلات ، جاءت المرأة العتيدة ، لتكتشفه وتتأكد منه .. ثم تلتقطه، هكذا بالملقاط .. ثم تحمله لتلقيه بعيداً .. بعيداً، في سلة النفايات ..

 

الكاتب: زهير الشلبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق