Translate


الخميس، أكتوبر 21، 2010

نساء في الشاحنة للكاتب الفلسطيني عبد الباسط محمد خلف



مكبر الصوت يعلن في القرى الفلسطينية عن الحاجة إلى عاملات، ويتم الطواف عليهن لجمعهن من بيوتهن عند الثانية بعد منتصف الليل، وتفرح للنداء كثير من الصبايا والعجائز، ففي كل أسرة فقر وجوع وحرمان، هذه تريد الدواء لأمها، وهذه تريد الدواء لولدها، وثالثة لم تذق الطعام منذ أيام، ورابعة زوجها مقعد، وخامسة أولادها في المعتقل، وعند الثانية قبل الفجر تحملهن الشاحنة، وهن لا يعرفن على أين سيذهبن أو ماذا سيعملن أو ما ألجر؟ وفيهن العجوز والمريضة، والشاحنة تجتاز بهن الطريق الوعرة، ثم تقف فجأة، إذ يجب أن يحشرن في سيارة براد لسائق يهودي، ليجتاز بهن نقاط التفتيش وقد أغلق عليهن السيارة البراد، ثم عليهن أن يجتزن الجدار العازل من إحدى فتحاته السرية، ليعدن إلى السيارة البراد، ويعملن في جمع البرتقال من غير استراحة تحت سياط الشتائم والتوبيخ، ويبقين على هذه الحالة أياماً وهن ما زلن يحلمن بالأجر، ولم يتقاضين شيئاً، ثم يفاجأن بنقطة تفتيش، ويصر الجندي على فتح السيارة البراد، ويكشف أمرهن، وبتكم سوقهن على التفتيش والتحقيق، وهناك يلقين الذل والهوان، وهكذا تنتهي الأيام العشرون وينتهي شقاؤهن على شقاء، ولا أجر ولا عمل، وكانت إحدى العاملات تكتب مذكرتها يوماً بيوم بإيجاز، ثم تسقط مريضة من غير أن تتم مذكراتها. في الوقت الذي كانت فيه سيدة أخرى تسعى على زيارة ولدها في المعتقل ورفع شكوى إلى الصليب الأحمر، ولا جدوى. وفي إحدى المدارس تطلب المعلمة من إحدى تلميذاتها أن تقرأ مقطعاً من رواية رجال في الشمس، فترد التلميذة: لماذا نذهب بعيداً وعندنا نساء في الشاحنة.
تمتاز القصة بالذكاء، والتوظيف الثقافي، فهي منذ العنوان تشير بلطف إشارة بعيدة إلى رواية غسان كنفاني رجال في الشمس، ولكنها تكشف عن ذلك بجرأة في النهاية، والقصة تؤكد استمرار المعاناة، بشكل أشد وبصورة أقسى، فالنساء هنا يعانين أشد أشكال المعاناة. والقصة تصور قطاعاً عريضاً من النسوة والأسر الفلسطينية، وتوزع البطولة على عدة شخصيات، ثم تقدم محاور جديدة في القص والسرد، إذ تقدم شكلاً مكثفاً من أشكال المذكرات، فتغني النص كما تنتقل إلى قصة أم لولد أسير، لتكتمل صورة المعاناة. ويلاحظ أن الأدوار كلها للنساء، وهي أدوار بؤس وشقاء، وإهانة وظلم، فالمرأة تستغل في العمل، والذي يستغلها هو العدو، وبذلك يتحول الاستغلال إلى شكلين، فيتضاعف البؤس. وتشير القصة بذكاء إلى الواقع الراهن من خلال محاولة سائق الشاحنة أن يستمع إلى أخبار الحرب في بلاد الرافدين.
القصة مكثفة، وهي مروية بضمير الغائب، وتتضمن لوحات متعددة لبؤس النسوة ومرضهن وفقرهن وشقائهن وفي العمل، وتمتلك بعداً إنسانياً، وهي تصور بذكاء ظلم المحتل بصورة غير مباشرة، فهي لا تبالغ ولا تفتعل، ولا تدين علانية ولا تتهم، وإنما تترك للقارئ أن يستنتج.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق