Translate


الأربعاء، أكتوبر 06، 2010

حرية الفكر




بقلم د. محمد الأحمري

قال الحسن البصري: "اعلم أن التفكير يدعو إلى الخير والعمل به", ومنذ مائة عام: "حذر شاعر ألماني -هاينه- الفرنسيين ألا يقللوا من قدرة الأفكار, ففكرة يقولها أستاذ في غرفة درسه قد تدمر حضارة". لعل من المناسب – بداية- تعريف الفكر على النحو التالي: "الفكر عمل العقل لإدراك ما يحيط به".. وله منازل : فالأولى: مرحلة عامة يشترك فيها أغلب الناس, بناء على الثقافة العامة أو البراعة في مهنة أو عمل, بشكل يجعل هذه الخبرة ممكنة الوروث والتأثير. ثم مرحلته الثانية الأعلى منها: وهي التقدم في معرفة الروابط بين المؤثرات من حوله, ليعرفها, ثم يفهم طريقة عملها. ومرحلته الأعلى: التأثير فيها.
والحقيقة أنه يصعب رؤية الخط الفارق بين المفكر والفيلسوف, إلا من اتضح لديه أن المفكر صاحب دور حيوي مباشر في الحركة اليومية للأفكار والسياسة والدين والأدب والخلق, وقد يكون المفكر على مستوى الفليسوف معرفة, ولكنه يتميز بالعمل, إذ كثير من الفلاسفة علماء فلسفة, بأفكار معتادة مكرورة, أجادوا معرفتها ولم يستطيعوا تحريكها في الحياة, وهناك من الفلاسفة من يَجدُ أكثر من المفكرين في العمل في الإقناع برأيه, أو عمله. أما المفكر فهو مساهم حيوي مؤثر في الحياة اليومية للناس, وإن لم يكن له نصيب مما سماه الناس فلسفة, ولكن له مشروعه العملي في الوجود.

الاحتفاء بالفكر:
إن زمن القوة الإيمانية والقوة المادية هو زمن نُصرة الفكر وفتح الحرية له, وخير الأزمان التي مر بها الفكر هو عصور الإسلام الأولى, إذ انطلق التفكير في النص, والتفكير في التطبيق, والتفكير في توليد الأعمال والمفاهيم, واجتلاب الصالح منها بطريقة لم يسبق للأمة العربية أن عرفتها من قبل. ولا أثيرت الأفكار والمبادرات كما أثيرت في زمن الرسالة.. مما حدى بأحدهم أن يكتب كتابًا عن دولة الإسلام الأولى بأنها دولة الفكرة.. ففكرة الخندق, وفكرة الخاتم, ولباس الحلة للوفود, بل وقبوله صلى الله عليه وسلم لقول أحدهم والحديث في البخاري: "اللهم لك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه", وقبوله صلى الله عليه وسلم لها وتأييده.. ثم قبول التدوين والدواوين وغيرها. وهكذا كانت دولة محمد بن عبد الوهاب.. وهكذا الدول المؤثرة في العصور الحديثة نتاج فكر وممارسة لهذا الفكر.

حرية الفكر:
والأمة التي ترعى الفكر وحريته تسود, والذين يحقرونه ويطاردونه يذلون ويخسرون, إن حرية الفكر تعني الإذن بالوعي, وتعني فتح آفاق المعرفة, تعني التخلص من تأسيس فرق الباطنية, والفرق المفزعة المنحرفة المدمرة, التي تنمو في الظلام, وتجتاح المجتمع في أي لحظة بلا رقيب, وبلا حساب من أحد, تجد المجتمعات المغلقة مصيرها في أكف مجهولة, وتحت إرادة فرق غريبة, ومفاهيم شاذة, والسبب هم الذين يرون سيادة معرفتهم وفهمهم ويغلقون على الناس الدروب فتنفجر في وجوههم ذات يوم بلا حساب ولا تقدير. حرية التفكير تعني أن نفتح الباب لخير ما عندنا, فنقبله ونتدارسه ونطوره, ونجعله أكثر دقة وجمالاً وتعبيرًا عن الحق والوحي والخير والعدل, أما كبت الناس فتعني السماح بنشر الفساد, تعني تدمير العقل, تعني قتل روح الدين والتدين, تعني قفل أبواب المعرفة والاجتهاد, تعني سيطرة ثقافة الشرطة, وتمكنهم من توجيه الفكر والثقافة, وحشر عقول الأمة وقلوبها وتطلعاتها في يد عسكر باطش, وجاسوس خائف, يفرج عن جهله وخوفه من شرطيه الآخر بقتل تطلعات الأرواح, وقتل ثمار العقول, وتقييد حرية الفهم.
إن حرية الفكر ليست حرية تآمر, وليست حرية فتنة ولا خلاف, إنها خيرٌ عميمٌ, ومصلحة للأمة تتجاوز الأفراد فلا يتفهمها ذوو المصالح الضيقة العاجلة, ولا يستطيع إدراك أهميتها من لا يفكر عقله إلا برغباته.. ولا من يجعل من حرية الفكر هروبًا من كل التزام, إنها حرية الفكر التي سادت في عهد الرسالة وفي عهود السلف المبكرة, والتي أنتجت المذاهب الإسلامية التي ننعم بخيرها, وحرمنا من منهجيتها الرائعة التي بنت الأمة وأيقظت الهمة وأوقدت العقول وهزت الهمم وأصلحت الأمم. لقد كانت مهمازًا كبيرًا للعقل البشري في الغرب خاصة, نفعهم كثيرًا, ولكننا بلا شك قد استفدنا من نتائجه التي جاءتنا بعد تعديلات وصياغة وتطوير, جاءت متأخرة جدًا نتائج عقولنا قديمًا, ربما عادت لنا أسلحة قاتلة, وعادت لنا أعجمية, ملطخة بالوثنية والثقافة الغربية, نعم مليئة بكثير لا نريده, ولكننا أفدنا منها, وإن رشدنا أعدناها لتستوطن عندنا مرة أخرى.
وحرية التفكير لا تعني شيئًا ما لم يصاحبها حرية التعبير, فالتعبير هو الآلة التي توصل الفكرة, بَرةٌ كانت أو فاجرةٌ للناس, ولا يقتل الفكرة إلا الصمت عنها, أو خذلانها من الوصول للناس, وكم من حق ورشد قتله الصامتون, وكم من مظلمة قهرت الناس بسبب سكوت العارفين, والكبت والصمت عن التعبير عن الحق يلازم لحظات الانحطاط في إنسانية الإنسان, وتردي مشاعره, وموت ضميره. وهناك لا يستطيع أحد أن ينادي فقط بحرية الفكر, لأن الفكر ينمو في الهواء الطلق, والجهل يكبر ويسود وينتصر في أجواء الانغلاق والعفونة. فتتلازم الدعامتان: حرية التعبير, ونضوج الفكر تلازمًا مصيريًا, لأن الفكر الذي قد يسود, أو يجبر عليه الناس, قد لا يكون صحيحًا, ولا معقولاً, وجهلاً مركبًا, ولكنه يستمد قوته من تحريم غيره. وما حدث في الدول الشيوعية جدير بفهم الناس له, وتقدير حقيقة خطر الانغلاق الفكري. ومعظم المجتمعات البشرية تمارس شرورًا من هذا القبيل, غير أن الطغيان المذل يقتل أهم جوانب عزة الإنسان, ويحطم قواه الذهنية, ويجعل من يتنفج بالتِحكم ضحية لتحكمه, ومغلوبًا تحت سيطرة من أعطى نسبة أعلى من حرية التفكير والتعبير.
وتلك من أهم مقومات المجتمع الإسلامي في لحظات بنائه الأولى, ثم في مراحل قوته الكبيرة, ومن قرأ العصر الأموي والعصر العباسي الأول الذي يقف عند نهاية القرن الثاني الهجري, يجد حقيقة مهما كرهناها ولكنها واقعة, وهي وجود حريات واسعة في المجتمع الإسلامي أثرت الحياة العقلية آنذاك وفيما بعد, وقد أفادت مهما انتقد المتأخرون الكثير من تلك المدارس.

الوحي والفكر والتراث:
هناك نصوص في ديننا قطعية المصدر, جاءت عن الله تعالى .. وعن رسوله صلى الله عليه وسلم, ومنها ظني الصدور عن رسول الله, وهناك قطعيات في الدلالة من النصين السابقين, أما ما عدا ذلك من الظنيات فهي ميدان للعقل والفكر البشري, في فهمها وتطبيقها بشرط رعاية أصول التعامل مع هذه النصوص, فقد رأينا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم يعملون عقولهم محاولين للفهم, ومطبقين لما فهموه من النص .. وقد يختلفون في فهمهم له ما دام النص يسمح بهذا التعدد .. وما دامت مقاصد النص واضحة للمجتهد.
وكما تعرضت نصوص في فترات عديدة الفرق المنحرفة محاولة العبث بها, وتأويلها حسب هواها, مما سبب خوفًا من العلماء والمجتهدين عبر العصور أن تبتذل النصوص, واللغة والعقل, ثم تؤول بما يخدم آراء المجموعات المنحرفة, ويصرف النص عن مراده؛ فشددت على إلزام المتأخرين بما قيل في النصوص من قبل - وإن كان القول السابق اجتهادًا واضحًا - ومنعت المتأخر من حق الاجتهاد, لا لأن ليس له حق ولكن بدافع الخوف, ثم جاء دافع التقليد, والرغبة في الحفاظ على أقوال السابقين.. وتكاثر الاهتمام بحفظ النصوص وإن كان الحفظ على حساب الفهم, وجرت المبالغة في تقديس المحفوظ ووضع الحفظ معيارًا, وهذه من مبالغات أهل النصوص, مما أوصل العقل المسلم إلى درجة من الركود خطيرة, عادت بانهيار الحركة العلمية والفكرية عند المسلمين, وفتحت قلوبهم وأعينهم وبلدانهم لمن عنده حيوية فكرية وعلمية, فسنة الله في الإنسان التطلع للجديد, والبحث عن المفيد, ولما قيدت المعرفة بقيود العجز والخوف والجمود, وبالغ أصحابها في طريقة التعرف عليها بأن حولوها نصوصًا معقدة, أو مثاليات ومبالغات في الحفظ والاستذكار, خرج الناس من الحق ورتعوا في غياهب الباطل - الوافد من أمم أخرى - الذي يستطيعون أو يخيل لهم أنهم يستطيعون فهمه والتعامل معه.
وكم من عمل قام لهدف نبيل أدى لعكس مراده, وكم من فكرة صحيحة ولدت عكس هدفها, فالحرص على التقيد خوف التفلت وَلَّد جمودًا, ولم يطق الناس هذا الجمود فحاولوا تكسيره حتى باستخدام خصومه, بوعي أو بدونه, فالجمود ضد الفطرة وضد الدين.. ومن هنا نعلم أن الجمود نوع من الإضرار بالدين والصد عنه, وأثره لا يقل كثيرًا عن أثر الهجران له, يدرك ذلك من سبر أثره في أمة الإسلام, وهو أوضح عند أمم أخرى. إنها خطوط صعبة ودقيقة بين الطرفين, غير أن العلم والوعي والتجرد تعين بإذن الله على السلوك الصحيح بين أوهام هذا التضاد.
فمتى ما تبين لنا الفارق بين النص وفهم النص, استطعنا احترام النص وفهم النص, وما دمنا نكثف المساحة حول النص, ونملأها بأقوال الناس وأفهامهم, ثم نلقي عليها قداسة النص القطعي فإن هذا الأسلوب الحمائي لا يخدم الشرع, ولا يطور الفهم, ولا يجدد الحياة العلمية والعملية, بل الدور المهم الأعظم لرائد الإصلاح أن يجلي النص من ملابسات أقوال الناس وأفهامهم, حتى يواجهوا خطاب الله وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم دون تلبيس ولا تعقيد.. ثم يعمل الناس فهمهم في النص في كل زمان إذا توفرت لهم أدوات اللغة كما فهم السلف, دون قطيعة مع السلف ولا تقديس لفهم يزيد عن مراد الشارع.. وهذا مما نقصد به الفكر.
أما التراث فهو كثير من أقوال السلف, وممارساتهم, واجتهاداتهم, نستصحبها ولا توقفنا عند حدها ما دام النص لغة وغاية يتجاوز الزمان, ويتجاوز التجارب الإسلامية. والبديل عن ذلك أن نجعل التراث شرعًا, ونقدس غير المقدس وبهذه الطريقة نفتح المجال الأكبر للتفلت من الشرع لكثرة التراث فيه, ونجعله عائقًا عن الفهم ليس فقط بسبب ضخامته ولكن أيضًا لتنافر منهجياته وتعددها. إن التراث مهم للمفتي وللقاضي, ولكن ليس للمفتي والقاضي أن يلتزمه.
وفي زماننا زاد الخوف من الفكر الغربي, ومن مشكلات العصر الكبيرة, فكان أحد ملاجئ الهروب الفخر بالتراث, وهذه سنة للمغلوب الذي يبحث عن ذاته أمام الاستلاب الحضاري, سلب النفس والقيمة, ثم المبالغة في دور وقيمة التراث, وبالتالي إكساب التراث لباس الشرع والقداسة, وهو موقف دفاعي وليس موقفًا إحيائيًا, فالإحياء يقتضي التخفف من الأثقال, والشفافية والفاعلية, والمرهق بهذه الثقافات والقيود ومجاميع التراث, وتقديس الموروث يجد نفسه كليلاً عن النهوض بالعبء فيخطئ من يقوم, ويتهمهم بالتهاون والتساهل, بل وبالخروج عن طريقة السلف الصالح. وهو محق في بعض اتهامه أنهم خرجوا أو سيخرجون عن بعض ميراث السلف, ولكن هذا بعض مقتضيات تجديد الحياة, ولكنه بالمقابل لا يملك حلاً سوى تمجيد التقليد.
ولا يعترف كثير من المسلمين الطيبين أنهم بمهاجمتهم للفكر الغربي والدعوة لمنهج السلف يقعون أحيانًا فيما هربوا منه, لأنهم في تعلقهم بكل شيء سلف إنما هو تعلق تاريخي, وتقليد للناس, لا احتكامًا للدين, لأنهم يغرقون في أفكار السلف, وهم بشر, عندهم حق وباطل, ويصيبون ويخطئون, فيسمي بعضًا قولهم وأفكارهم سلفية يقدسها, رغم ما يمكن أن يكون فيها من غيرها, ويسمي من عداه منحرفًا, وإن كان يجره للقرآن.. إنها عملية أعقد مما يحب قوم تبسيطها, بالتحذير عن المصطلحات واللغة المعاصرة, والثقافة المعاصرة, وهذه سلبية وهروب من الحقيقة والواقع المتعب حيث الهدوء بقراءة ما سبق قوله مرات في كل زمن. ويحاول محسن عبد الحميد أن يفصل بين الوحي والفكر الإسلامي ويشرح هذه الملابسات التي حدثت عن قصد أو غيره فيقول: "إن منهج التغيير الإسلامي لابد أن يضع خطًا فاصلاً واضحًا بين ما هو وحي إلهي وبين ما هو جهد بشري, أو فكر بشري, أو تصور بشري لمسائل الوحي الإلهي وتفسيره وشرحه في إطار قواعده وأصوله, وفي ضوء المراحل التاريخية المتتابعة. إن تسمية الوحي وما حوله من فكر بالفكر الإسلامي أو الفكرة الإسلامية لدى كثير من الإسلاميين أنفسهم خطأ كبير, شجع أرباب المذاهب المادية والعلمانية على الجرأة في تسميتهما معًا بالتراث.. فهؤلاء عندما يريدون أن يراجعوا التراث, يراجعونه من حيث هو كل في نظرهم لا يتجزأ. والنتيجة الطبيعية عند هؤلاء أن الوحي الإلهي يخضع للمرحلة الزمنية, فهو من التراث الذي يتعلق بالماضي.. والحال أن الوحي من حيث هو علم الله الكامل لا يمثل ذلك الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل, بل هو يمثل الحقيقة الأزلية التي لا ترتبط بالزمن ولا تخضع له.. فهو ليس تاريخا للبشرية, أو حركة حضارية تختص بمرحلة من مراحل تطور تاريخ أمة من الأمم".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق