Translate


الجمعة، أكتوبر 15، 2010

الحكاية الشعبية في التراث




الحكاية الشعبية من أهم جوانب الأدب الشعبي في تراثنا القومي الذي يصور بدقة واقع حياة الشعب من عادات وأعراف وعقائد وفنون. ذلك الموروث التراثي الذي نتعرف من خلاله على طباع ونفسية وصفات حياة أفراد المجتمع وأخلاقهم ومعاناتهم، وتصور جوانب حياة الناس اليومية الثقافية والسلوكية، والموروثات الشعبية تشمل الحكايات الشفاهية، والأمثال، وتقاليد الأفراح والأحزان، والأعياد والأغاني، والأهازيج، والعدّاويات، والدبكات، والزي الشعبي، والمسكن والعادات والمعتقدات وغيرها ممّا ورثته الأجيال بعضها عن بعض على مر التاريخ حتى وصلتنا كما نعرفها حالياً، فالتراث يمثل كل المأثورات والخصائص التي تشكل الشخصية القومية الوطنية للإنسان العربي في حقبة ما من تاريخ الأمة.
وتشير الدراسات إلى أن الموروثات الشعبية ذات أصول قديمة وجذور موغلة في التاريخ، يعود تاريخها إلى آلاف السنين، لكنها تعرضت للتغيير والتبديل والحذف والإضافات لتتناسب مع التطورات الاجتماعية والثقافية والدينية والبيئية، فحافظ الناس على ما يناسبهم وتركوا ما لا يلائمهم وأضافوا إليها من ثقافتهم المعاصرة ما يريدون.
في الوقت الحاضر نجد أن معظم الصور والمظاهر التراثية بدأت تتلاشى وتندثر مع الزمن، وتوقف العمل بها منذ أكثر من ربع قرن نتيجة التطور الاجتماعي والثقافي والحضاري والتقني الهائل، في الحياة الاجتماعية، وظهور وسائل الإعلام الحديثة من تلفاز وإذاعة، وصحف وكتب واتصالات، عملت جميعها بقوة على إزاحة الموروثات الشعبية والمظاهر التراثية، عن مكانتها فأهملها الناس وتخلوا عنها، وانتفت الحاجة لممارستها والاستمرار فيها.
فالأولاد لم يعودوا يتحلقون حول الجدّة، لتروي لهم حكاياتها الجميلة الساحرة بعد أن حلّت (الشاشة الصغيرة) محل الجدّة كجدّة حديثة متطورة، بالإضافة إلى كتب ومجلات الأطفال الأدبية التي أصبحت أكثر ملائمة لعقلية الطفل، وثقافته ونفسيته وطموحه، كما أن عادات وتقاليد الأعراس والمناسبات لم يعد بالإمكان ممارستها، والعمل بها بعد التطورات الاجتماعية، والاقتصادية في الريف والمدينة من زحمة العمل، وضيق الوقت والمسكن والساحات، وانصراف الناس إلى اهتمامات أخرى معاصرة، كل هذا أدّى إلى إلغاء مظاهر الأعراس الشعبية، والاحتفالات العامة للناس، وحلّ محلّها الحفلات في الصالات المغلقة المزدحمة والألحان الصاخبة، والرقص الفردي لعدّة ساعات، ثم تنتهي الحفلة بأن تسير قافلة العرس إلى الفندق أو بيت العروسين وانتهى الأمر.
أما أطفال " الحارة " فلم يعد بإمكانهم ممارسة ألعابهم الشعبية القديمة التي تحتاج إلى ساحة واسعة، وبيئة طبيعية مناسبة، فحلّت محلهّا الألعاب الرياضية والملاعب والأندية.
كما أن انتشار العلم والوعي غيّر كثيراً من مفاهيم وقيم، ومعتقدات الناس فابتعدوا عن العمل بالسحر والرقي والكتابة والحجب، والعلاج بالوسائل القديمة واندثار صور الجن والغيلان والوحوش الخرافية من الخيال والذاكرة الشعبية، لتتحول عقلية الناس نحو العلمية والواقعية والمادية الملموسة ...
ومهما كنا متفائلين فالحقيقة أن عصر التراث الشعبي قد احتُضر وانتهى، ولم يعد يهتم أحد به سوى الدارسين والباحثين، الذين يعملون جهدهم لجمعه من ذاكرة الجيل القديم، أو ما بقي عالقاً منه في أذهانهم، ويقومون بتسجيله وتوثيقه وتحليله، وربع قرن آخر من الزمن كاف لأن يتلاشى ويختفي نهائياً من الذاكرة، إمّا بالموت أو الخرف أو ضعف الذاكرة.
وكما توقف عصر العمل بالتراث الشعبي وممارسته، توقف أيضاً عصر ابتداع الفلكلور الشعبي، فالإبداع مرتبط بالخيال الذي يستمد مادته من الأساطير، والصور الغريبة والشخصيات الخرافية، والشعور بالعجز عن الفهم، وتحقيق الطموح والغايات الحياتية الصعبة، فالخيال الشعبي كبلته القيود الهائلة من الإنجازات العلمية، والحقائق الكونية والاكتشافات الطبيعية والأدوات التقنية المتطورة، فلم يعد الإنسان الحالي بحاجة للتفكير بالغيبيات والمعجزات، والحلم ببساط الريح والفانوس السحري وطاقية الإخفاء وغيرها، وهو يرى أمام عينه الطائرة والسيارة والتلفزيون، والمراكب الفضائية، والطب الحديث الذي كشف معظم الحقائق المستورة وهتك ستر العتمة، وكشف عجز القوى الخرافية أمام الأسلحة المتطورة والقنابل الذرية، وبعد أن فضح كذبة حورية البحر وجمال ست الحسن وشاعرية القمر، فسحب من تحت الخيال الشعبي بساط التحليق، والانفعالات والعواطف وسلاح الرومانسية والإثارة والرغبة والحب.
كتب ماسبيرو في كتابه (أغاني شعبية مصرية) يقول: (إن مصر تطورت بسرعة وأن كثيراً مما رآه في زيارته الأولى، وما سمعه قد اختفى وانقرض أو في طريقه إلى الانقراض فلا بد من الإسراع في جمعها وتسجيلها ...)، وهذه الدعوة إلى جمع التراث وتسجيله تكتسب أهمية قصوى لدينا من اعتبارات قومية أساسية يتحمل مسؤوليتها مفكرو ومثقفو الأمة، لجمع وتسجيل الأدب الشعبي الشفاهي الذي مازال متداولاً بين الناس بالحد الأدنى والمحدود، من أجل الحفاظ على تراث الأمة وهويتها وأصالتها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق