Translate


الخميس، نوفمبر 04، 2010

هاكوب بارونيان




هاكوب بارونيان - اديب ارميني ساخر (1843- 1891)

لو لم يملك هاكوب بارونيان ذلك الأرق للنفاذ إلى أعماق الظواهر الصارخة في القيم الاجتماعية والسياسية والدينية لما أبدع كل تلك السخرية. وأفضل وصف للفترة التي عاشها الكاتب الساخر الكبير في القرن التاسع عشر هو الذي جاء بعبارته (الفترة حيث وُضِعت الحقيقة في القبر).
يعتبر هاكوب بارونيان (1843- 1891) رائد الأدب الأرمني الساخر، وأحد وجوه الأدب الكلاسيكي في السبعينات والثمانينات من القرن التاسع عشر. لقد أسس النثر والمسرح الواقعي في الأدب الأرمني الغربي، ونشير إلى وجود أدب أرمني شرقي في أرمينيا وأدب أرمني غربي لدى الأرمن في المهجر. دخل بارونيان عالم الأدب المسرحي وتطورت موهبته في المجال الصحفي، وأخذ ينشر مقالات ذات طابع ساخر كأصداء للحياة الاجتماعية والوطنية ويفضح سياسة المصلحة.
لم يعط هاكوب بارونيان بكتاباته وإبداعاته دفعاً للحركة الأدبية في تلك الفترة فقط بل لتطور الفكر أيضاً كأحد ممثلي تيار الفكر الديموقراطي. لقد أبدع بارونيان كتابات على مستوى رفيع في النثر الساخر والمسرح، إلى حد أنها أثَّرت على تطور الفكر الفني لدى الشعب الأرمني.‏
يتميز المستوى الفني في الإبداع لديه في الدرجة الأولى بأنه يرصد بصدق وعمق أحداثاً تتصف بها الحياة الأرمنية اجتماعياً وسياسياً في فترة 1870- 1880. وهكذا استطاع بارونيان أن ينفذ وبشكل مدهش إلى صميم ظواهر الحياة الاجتماعية والسياسية سواء لدى الأرمن أو غيرهم في العالم، ويبيّن الجوانب الساخرة والهزلية من الحقيقة في صور معينة، فذلك هو أساس سخريته. ولد بارونيان في القسم الأوروبي من تركيا في مدينة أدرنة عام 1843. كان يتقن عدا عن الأرمنية اللغة الفرنسية واليونانية ممَّا أتاح له الفرصة للتعرف على المسرح الفرنسي واليوناني. انتقل إلى القسطنطينية عام 1863 وعمل في مجالات مختلفة كموظف بريد وأستاذ وممثل. واحتك بالمثقفين وأصحاب القلم في جريدة (النحلة). ثمَّ بدأ حياته الأدبية بالمسرحيات، إذ كتب مسرحية (خادم واحد لمعلمين) لكنها لم تنشر، وفي عام 1868 أصدر المسرحية الساخرة (طبيب الأسنان الشرقي) حيث وضع بها أساس المسرح الأرمني الواقعي. وبعدها وضع بارونيان جلّ جهده في الأدب والصحافة فاستلم تحرير جريدة (النحلة). أصدر دوريات ساخرة مثل (المسرح) و(السفسطائي) بعدما أقفلت (النحلة) حيث بدأ ينشر كتاباته فيها مثل (أعيان وطنيون) و(دفتر الأبله). وبعد إقفال جريدة (السفسطائي) الساخرة ساءت أحوال بارونيان وأصيب بداء السل وتوفي عام 1891.
لقد طرق بارونيان أنواعاً عديدة من الأجناس الأدبية. كانت غالبية كتاباته نثرية ولكن يمكننا القول أنه في طبيعته الإبداعية كاتب مسرحي بامتياز.
من الجدير ذكره أن كتاباته كانت غنية بالحدث والحوار النشيط المفاجئ حتَّى وإن كانت مشاهد بسيطة أو قصصاً قصيرة. وبذلك، يتحول أغلب نثره إلى مسرحيات يمكن أن تقدم على المسرح، والجدير ذكره أنه تمَّ عرض أغلب أعماله على خشبة المسارح في أرمينيا وخارجها.

الهجاء السياسي عند بارونيان
النوع الأساسي للسخرية لدى بارونيان هو الهجاء حيث يشكل مضمونه كافة الظواهر وخبايا الحياة السياسية والاجتماعية في المجتمع الأرمني في ذلك الوقت. وقد توجه هجاؤه إلى الظلم الذي يقع على الجماهير المقهورة وإلى طغيان البورجوازية ونظام السلطان الوحشي وضد السياسة المخادعة للدول الغربية.
لقد لفتَ بارونيان الأنظار في السبعينات بشعبيته ووطنيته، فقد ظهر بوعي عالٍ لقوة السخرية. وقد كتب في مقدمة عمله الشهير (دفتر الأبله): (أنا أيها السادة سأسخر ولست بحاجة إلى لحن أو بيانو كي أسخر...). هذه الأسطر موجهة ضد الرومانتيكية الوطنية وتبيّن أن الساخر الكبير مستعد لإراقة الدماء من أجل خير المجتمع، وأن سخريته لها طابع أصيل و مقاتل. كان بارونيان يرغب من صميم روحه بتحرير الشعب من استبداد السلطان. ويجب أن نعتبر أن الخدمة الكبيرة التي أسداها في هذه الفترة هي أن سخريته قدمت للشعب الحقائق والأحداث بواقعية عميقة، وكان يعمل من أجل التنبيه وتوعية الأفكار لكي لا تعقد آمال التحرر على وعود كاذبة من السلطان والأعيان الوطنيين.
حقاً، لقد كانت إحدى جوانب الهجاء الأساسية لدى بارونيان النقد اللاذع للأعيان الوطنيين أي ممثلي التيارات المحافظة الأرمنية.
إن الملاحظات الساخرة التي كان يبديها بارونيان تحافظ على معناها ومصداقيتها حتَّى يومنا هذا وتبيّن عباراته اللاذعة القيمة الفنية للهجاء السياسي لديه.

الهجاء الاجتماعي‏
يعتبر إطار الحياة الاجتماعية الواسع أحد أبرز القيم للسخرية لدى بارونيان. لقد طرح إلى جانب المسائل السياسية العديد من المسائل المتعلّقة بظواهر الحياة الاجتماعية وقد نجح برسم الوجوه الفنية لكافة الفئات الاجتماعية في تلك الفترة.
من العبارات المعروفة في عمله (نزهة في أحياء استنبول) الذي يصف فيه حي الأغنياء: (يحدّه من الشرق الولع بالقمار ومن الغرب حب التبرج ومن الجنوب الإسراف ومن الشمال الخداع). لقد احتل موضوع الجوانب السلبية من الحياة الأخلاقية في المجتمع آنذاك حيّزاً كبيراً في إبداعات بارونيان. إنه ينتقد بشدة الطبائع المتجذرة في حياة الأغنياء والطبقة الوسطى مثل الآداب المزورة الباطلة والولع بالموضة والتبرج التي بدأت تتفشى وتسيء إلى سلوكيات طبقة الفقراء. كان الكاتب الساخر يرى في التعابير السلبية للحياة مصيبة اجتماعية كبيرة لأنه ونتيجة لذلك يصبح العالم النفسي للنساء فقيراً وينقطع عن الحياة الاجتماعية ليفكرن فقط بجمالهن والتبرج والزينة.
الهجاء لدى بارونيان غني بنقد رجال الدين، فهو لا يرى أي نفع من عملهم ويقول إنهم كانوا ينفعون مجتمعهم بكلامهم أمَّا الآن فببطونهم.
تعتبر (المتسولون الشرفاء) والمسرحية الساخرة (الأخ باغداسار) من أبرز أعمال بارونيان في الهجاء الاجتماعي أو بشكل أعم الساخر.
الإحساس بالآنية قوي لدى بارونيان. فهو أول من يلاحظ الظواهر الجديدة في الحياة ويكتب عن صداها في أعماله. فتعتبر أعماله المسرحية التعبير الواضح عن بصيرته. أتى هذا الكاتب الثاقب النظر بنفس جديد إلى المسرح. إن مسرحية (الأخ باغداسار) تعتبر جوهرة ليس فقط بالنسبة للأدب الأرمني إذ أنها نوع فريد في الجنس الأدبي في الأدب العالمي.
يحمل بارونيان في داخله حكمة الشعب وروحه النبيلة. وبقناعته (أنه لا يوجد في العالم شيء ساخر أكثر من السخرية التي تنقصها العدالة). كان ينتقد الكتّاب الذين يسعون إلى تغطية فقر المضمون بجمالية الشكل الخارجي ويقول: (إن البساطة والصدق تمثلان جمالاً نبحث عنهما قبل كل شيء). لقد خرجت أعمال بارونيان من الإطار القومي ودخلت إطار كنوز القيم في الأدب العالمي.
إن بارونيان كاتب خالد ومبدع. وقد أدرك عظمته فقال مرّة: (أيّها الموت أنت لم تستطع دحري وإماتتي. هاهو اسمي خالد في البلاد. هاهم يتحدثون عني ... ويحكون ...)

أعماله وعالم أفكاره
كان قلمه غزيراً فقد كتب العديد من المسرحيات نذكر منها: (طبيب الأسنان الشرقي) (1868) حيث ينتقد الزواج المبني على المصالح. فيتزوج طبيب الأسنان الشاب من سيدة عمرها 60 سنة طمعاً بمالها. والمسرحية الهزلية (خادم واحد لمعلمين) حيث يسخر من تاجرين غنيين يشغلان معاً خادماً واحداً. وفي مسرحية (المتملّق) يسخر من الطبائع والأخلاق العائلية للطبقة البرجوازية في استنبول. وتعتبر (الأخ باغداسار) من أقوى أعماله حيث يتناول صورة من عدم الوفاء العائلي. وباغداسار رجل ساذج وهو ضحية زوجته وعشيقها ودسائس أعضاء مجلس القضاء.
أمَّا (ضريبة اللباقة) التي كتبها عام 1886 في استنبول، فهي عبارة عن قصص مسرحية ساخرة، شخصياتها ضحايا الغش، وهم محكومون بالقواعد الزائفة للأدب واللباقة. وقد تناول برؤية ساخرة نماذج مختلفة من المجتمع كالثرثار والساذج والوطني والدخيل والإنسان السوي، فتارة يسخر من العلاقات الزوجية وتسلّط الزوجة وتارة أخرى يفضح العلاقة بين التاجر والزبون وطرق الغش التي يتّبعها التجار.
تولد من صفحات بارونيان الأفكار التالية التي كان يطرحها في أعماله وبقيت قريبة من روح الكاتب الساخر:
ـ الحرية: كان بارونيان يناضل من أجل الحرية وضد وسائل التقييد.
ـ موقفه من الطبقات الاجتماعية: بارونيان دائماً مع الطبقة المتواضعة والمقهورة بشكل صريح، ويندد بأخلاقيات الأغنياء الفاسدة. على الرغم من أنه كان يوضح سلبيات الناس فقد كان يقدر صدقهم وروحهم البسيطة.
ـ العائلة والزوجة: كان بارونيان حريصاً على قدسية الحياة العائلية. فالحب الطاهر والزواج المبني على أساس جيد هما كنزان لا يمكن تعويضهما. فهو يدافع عن الاحترام المتبادل بين الزوجين.
ـ الدين ورجال الدين: تناول بارونيان في مواضيعه نقائص رجال الدين والتفكير الضيّق. إلا أنه ثمَّن رجال الدين الذين يكرسون أنفسهم من أجل العالم.
ـ الوطن: يظهر بارونيان خلف سخريته حساً عالياً بالوطنية ويقف إلى جانب الأرمني الذي هضم حقه.

الخصائص الأدبية‏
تمحورت مواضيع بارونيان حول الطبقات الاجتماعية للأرمن في استنبول والمواضيع الاجتماعية والوطنية وحتى السياسية. إنه يسخر من الميالين إلى الغرب والأجانب. فنجد لدى بارونيان قيم الإنسان الصادق والجريء، فقد ناضل دائماً من أجل المُثل العليا الجميلة. فيكتب في مقدمة (أضحوكة) التي تدور أحداثها حول الحياة الوطنية والفكرية والعلاقات الدولية من خلال شخصياتها وهي ليست أناساً بل حيوانات، كالقطة والضفدع والذئب والنمل: "أنا أصنع كل هذا ومرشدي هو الصدق، الذي تبعته حتَّى الآن والذي يتبعني حتَّى اليوم ...".
إنه الكاتب الساخر الذي يسيطر على الحياة الأدبية الأرمنية حتى اليوم. فهو أول من عبّر عن السخرية بأجناس أدبية مختلفة، كالقصة واليوميات والمسرحية وغيرها.
من أعماله الضخمة: (المتسولون الشرفاء) 1882، و(نزهة في أحياء استنبول) 1880، و(دفتر الأبله) 1880، و(أعيان وطنيون) 1874، ومسرحية (طبيب الأسنان الشرقي) 1868، و(خادم ومعلمان) 1865، و(المتملق) و(الأخ باغداسار) 1886.‏
نشر بارونيان (دفتر الأبله) عام 1880 في القسطنطينية. وهو عبارة عن قصص قصيرة جداً وحوادث يومية قصيرة يرويها بارونيان على شكل يوميات، وتتضمن مقابلاته وأحاديثه مع الناس ووصفه لكل ما يدور حوله من حياة سياسية واجتماعية، لكن على طريقته الخاصة. وهو إذ يسخر وينتقد الحكومة والدبلوماسية الأوروبية. فقد كان هدفه كما كتب في المقدمة، أن يصحح السلبيات والنقائص بالسخرية منها. لقد دافع عن قضايا الضعفاء وتمرّد على الظواهر البالية والفاسدة إذ قال: "هناك أموات يجب قتلهم".‏




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق