Translate


السبت، نوفمبر 13، 2010

الهجرة داخل النص



بقلم الكاتب: د. حمزة رستناوي*


 
عندما يلقى الفرد وسط عالم تم تثبيت بنيته منذ أمد بعيد ، يضطر للتعايش مع معطيات التقاليد التي تصبح جزءاً لا يمكن فصله عن هذا العالم. إن هذه التقاليد يضحي وجودها مرتبطاً بمعنى الوجود الخاص به. القاصة سحر سليمان تلقي بأبطال قصصها وسط هذا العالم الظالم ، دون سلاح سوى البقاء ومصارعة الواقع عبر رؤية رافضة له ، تلعب المغامرة دوراً مهماً باعتبارها أحد المجالات التي تؤكد الذات ، سحر سليمان في قصتها "الهجرة من القدر" تريد أن تقول لنا شيئاً ، تريد أن تحكي عن حارتها المشغولة بالحكاية والأقاويل ، تحكي لنا عن العسكري الشركسي المتقاعد ، وعن آكوب الطحان الأرمني ، فالعسكري ذو الملامح الصارمة ينتهي إلى الدخول في النسيج الاجتماعي للحارة "يومها اكتشفت الحارة الخائفة أن الرجل الذي بث الرعب في القلوب مسالم ووديع كطفل كبير ، فأصبح أحد أركانها والمستشار القانوني لأهلها في المنازعات والخلافات "أما آكوب الطحان فيختفي هو وهدير طاحونته هارباً إلى أمريكا ، وسحر سليمان تحدثنا عن دلبرين ابنة العائلة الميسورة التي تتزوج خطيفةً من المعلم الفقير ذو الأصل البدوي ، حيث تفر من القرية إلى الحارة فتسكن الطاحونة المهجورة مسدلة الستارة على تاريخها ، فهي تهاجر إلى قدرها بدلا من الهجرة من قدرها " فتلمست رقبتها لكن الخنجر كان الأسرع منها فسقطت غارقة في دمائها "فهؤلاء الذين يفكرون بالعادات والغرائز يضعون أنفسهم حراس بيت الشرف ويكشفون عن أبشع صورهم في هذه القصة.
هذه القصة "الهجرة من القدر" مجال رحب للتنوع والاختلاف "عرب – شركس – أرمن" وكذلك "قرية - بادية - مدينة" هذا التنوع يكون ماده قوامها كراهية الآخر والرفض المسبق بناءً على أحكام غير قابلة للنقض ، تعري القاصة الجسد السري للحارة كاشفة عن وجهه القبيح ، واللافت لانتباه أنه بعد مقتل الأم الخطيفة تظل الحياة تنبض في عروق هذه الحارة الطائشة فمازال طفلاها علو وخورشيد يحملان كل صباح صندوقي البويا المزينين بالمرايا والخرز الأزرق ، وينطلقان إلى الساحة العامة والمقاهي بحثا عن الرزق.
- في القصة الثانية المعنونة " النحيب " تتخذ المغامرة شكلا جديدا ، إنها مغامرة الجسد ، المغامرة التي لم تكتمل ، المغامرة مقطوعة الذروة ، فبعد فترة قصيرة من زواج بطلة القصة يختفي الرجل ، ويرجع إليها فاقد الرجولة " هل فعلوا معه ذالك عمدا ؟ أم كانت ركلة خاطئة "هذه المرأة المزهرة التي تعشق القهوة والزهور وممارسة الحب ينتهي بها الحال إلى امرأة تنتحب بحرقة في حضن زوجها العاجز ،  وتستعين بالليل والدموع لقضاء وقتها ، إنها ثنائية العاجز والعاجزة اللذين يربط بينهما الحب والوفاء ، يتحول الحب هنا من الفعل إلى اللا فعل ، وينقلب الوفاء إلى هاجس ثقيل لا خيار سواه ، إنها تجربة خاصة ترتقي بالإحساس عبر طقسية تعيد النظر تجاه عدة مفاهيم " تغرز أظافرها في شعر رأسه فقد اعتادت هذا الطقس الليلي ثم تنتحب على صدره " فالغريزة قد تكون الحاجة القصوى المرتبطة بوجودنا ، وهي بنفس الوقت الأرض البدائية التي انفصلنا عنها كي ندرك إنسانيتنا عندما تصاب الغريزة بالعطب نتأرجح في دينونة الحياة بعيدا عن السعادة.
- في قصة " العودة " يتحول الفعل إلى نقيضه ، فكل المنتظرات يلتقين بأبنائهن وأزواجهن إلا هي ، رجعت تجر ذيول الخيبة ، يمكن اختزال القصة إلى النهابة المبثوثة في السطور الأخيرة منها ، وحذف ما عدا ذلك ، هي نهاية متوقعة منذ بداية القصة بل من عنوانها "العودة" فالعمل الأدبي الحقيقي غير قابل للاختزال ، وما يعيب هذه القصة هو قابليتها للاختزال.
- في قصة " القلب الملون " تستورد القاصة نموذجا متكرراً من وراء القوقاز للبطل الفادي الذي يقوم بالتضحية: الأنثى مقابل الوطن المتخيل ، إلا أن معالجة القاصة لا تخلو من انزياحات غير متوقعة على صعيد الشكل ، هذه الانزياحات لها جمالياتها الخاصة ، فالبطلة تقوم بتأطير الصورة الشعاعية لرأس "ديرسم" وتعلقها على الحائط بدلا من الصورة الحقيقية ، تنتهي هذه القصة بأن يفقد البطل الأمل الأرضي بعد أن عاش حياته دون دخان دون خمرة دون نساء ، إنها الخيبة في أسؤ تجلياتها.
- في قصة " زاوية حادة " تتمحور القصة حول مقولة صغيرة تتردد كثيراً في حياتنا اليومية "استحي أنت بنت" استطاعت القاصة أن تولد من هذه المقولة فضاءات متعددة تتداخل مع الواقع ضمن بيت الزوجية فتصنع مناخات شديدة القسوة تجرد المجتمع من قناعة المتقن.
- أما في قصة "لعبة النوم" فهناك معادلة تستبدل العار بالحكمة " وما هي الحكمة في أن تتزوج امرأة لا تحبك ، وتحمل جنيناً ليس من صلبك " تقوم المعادلة على ميزان دقيق في مجتمع الإيقاع المحكم الإيقاع ، ولكن النار تحل المشكلة في نهاية القصة فلقد صبت الكيروسين على جسدها وأشعلت عود ثقاب ، يستعير الراوي هنا الشخصية الأثرية المستحاثية التي قدُر لها البقاء في طبقات الذاكرة المجترحة وهي الأنثى سليلة الحرام ، وتنتهي القصة مثلما بدأت بإشعال السجائر المتتالية ومداعبة النوم ، تنتهي مثلما بدأت قبل ثلاثين عاماً أو أكثر.
- في قصة "الساعة" تركيز مفرط على الجزئيات بحيث أننا بالكاد نستطيع معاينة ملامح الساعة والزمن المصلوب على الجدار.
- في قصة "البديلة" يتعرى نظام الأسرة ألبطريركي وقسوة الأب في تعامله مع الزوجة والأولاد ، حيث نجد الأب الذي تخلى عن مسؤولية ، والطبيب الجشع الذي اضطر الأم لرهن خاتمها وقرطيها لتدفع للطبيب ثمن العلاج ، بعد ذلك تموت الأم ويبقى شبح روحها في المنزل بعد أن رقد جسدها في المقبرة المقابلة لشرفة المنزل والتي تحولت إلى مقصف أو خماره ، وفي أخر القصة تجد البطلة نفسها سلعة ثمينة يتقن الأب استخدامها في زواجه الجديد من خلال المقايضة.
- في قصة "حالة عامة لفنان متفرد" يوجد توظيف جميل للون ودلالاته مع أن البناء الحكائي لا يتجاوز المعتاد ، ويسقط ضمن دائرة المتوقع ، لا تخلو هذه القصة من نفحة شعرية جميلة ربما استطاعت القاصة توظيفها ضمن سياق القص "الآن تلوذ بعيني رائحة نجوم بيضاء ، لم تمطر أبداً على رأسي".
- وأخيراً بعد أن انتهيتُ من عرض قصص المجموعة ، لابد من الإشارة إلى السمات العامة والمشتركة بين القصص ، فمن الملاحظ أن كل قصة تستعصم بالبطل أو بالأحرى بالبطلة التي هي الأنثى في صيغة المتكلم ، هذه الأنثى الحدية المزاج التي تصارع طواحين المجتمع ، فينتهي بها الطريق إلى الدوران والعودة إلى الذات ، هذه الذات المنعكسة من خلال الطقوس الخاصة بالبطلة كطقوس النوم وطقوس القهوة وطقوس التدخين ، هذه الطقوس التي تجعل القص يحمل خصوصية متفاوتة بين دفتي المجموعة.

الهجرة من القدر - سحر سليمان إصدار وزارة الثقافة -2002 عدد الصفحات 78


* د. حمزة رستناوي مواليد: قرية مورك – حماة – سوريا 1974 ماجستير في  طب الأعصاب  – دمشق 2003 صدر له: طريق بلا أقدام – مجموعة شعرية -  منشورات وزارة الثقافة – دمشق 2002، ملكوت النرجس - مجموعة شعرية-  إتحاد الكتاب العرب دمشق 2003 ، قرمطونا  - مجموعة شعرية- موقع الفوانيس " نشر إلكتروني" 2006 -عضو إتحاد كتاب الإنترنيت العرب -عضو المنظمة الوطنية لحقوق الإنسان في سوريا.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق