Translate


الأحد، نوفمبر 14، 2010

عيال الله








يستهل شيخ الورّاقين روايته "عيال الله" بطرد النقاد من سياقاتها، لأن الرواية الصادرة حديثاً عن دار التنوير العربي للنشر في لندن، موجهة في الأساس "لأولئك الذين يكدحون في الشوارع باحثين عن صرخة تعبر عن همومهم وآلامهم وتفضح منتهكي حياتهم" فيما يبدو انسحاباً استباقياً لرواية لا تصمد بأي حال من الأحوال أمام فعل المناقدة الجادة. والمسألة لا تعدو كونها محاولة لمواجهة الساحة بمنشور اجتماعي، يؤكد حقيقة إبداعية تفيد بأن الكاتب لم يعد كاتباً، بقدر ما أصبح ناسخاً، وعلى هذا الأساس التقريري يتأسس ميثاق القراءة.
ولأن الواقع أكثر غرائبية من الخيال، يستجلب كل ما يتداول من وقائع وشائعات ومرويات شفهية، ليحشّدها بين غلافين، دون حاجة لإضافة مستوى تخييلي يستكمل مستوى القص الواقعي، فالمفارقات الواقعية تكفي لإنهاض السرد، عبر تجميع بانورامي لحكايات لم تختبر صدقيتها، ومن خلال تسمية تفصيلية للأماكن والشخصيات الاعتبارية، حيث يحدث ذلك في مدينة سعودية حيث يحاول "المطاوعة" تطهيرها من نساء يرتدين عباءات مخصّرة، ومن مجلات فاسدة ومطربين مفسدين.
الرواية تنسرد ابتداء بصوت "وسادة" ملوثة بروائح أجساد متسلّخة بفعل خيرزانات المطاوعة، ربما كان آخرهم فاضل بن عبدالله الصالح. اسمها الحقيقي "مخدة" وهي بلا شرف ولا سمعة " وتكمن مهمتها في فضح الشيخ "..." الذي ينتزع السرد منها ليبرز للقارئ تقريراً طبياً موقعاً من الدكتور أيمن الأسيوطي، يثبت عجزه الجنسي، لينفي تهمة اعتدائه على مريم المقبوض عليها في خلوة غير شرعية في أحد المطاعم. ويفند كذب "المخدة" التي يتهمها بـ"الجامية" محملاً الليبراليين، ومنتديات الإنترنت العلمانية مسؤولية تشويه أداء الهيئة كبيت الشرك الغابر "طوى" وشبيهه "دار الندوة" ومنتدى المنحرفين "الطومار" والمنتدى الهالك "الغرفة السوداء" وكذلك "الشبكة الليبرالية السعودية".
وبالإضافة إلى المنتديات يحاكم الإعلام ممثلاً في جريدتين، مؤكداً على حق المطاردة التكفيرية لهذه الرموز من خلال بعض المشايخ ونشطاء منتدى "الساحات" ليستلم السرد الطبيب السعودي سعود سليمان الذي يصف نفسه بالمسلم المحب لدينه ووطنه ولمبادئ الليبرالية التي تتخذ من جملة "الإنسان أولا" شعاراً لها، ليؤكد أن تقريره الطبي مزوّر، وأن التحرش لا يستثني حتى الأطفال، لدرجة أن "فتاة القطيف" التي تعرضت للاغتصاب من قبل ثمانية ذئاب بشرية، حكم عليها هي أيضاً بالجلد بتهمة الخلوة، وهذا دليل إضافي على فساد أشمل.
وهكذا يستدعي حكاية تطليق "منصور وفاطمة" لعدم كفاءة النسب ليرقى بكل ذلك إلى مستوى الوثيقة الاجتماعية الحقوقية التاريخية، مختتماً مرافعته بقصيدة شهيرة في هجاء رمز صحوي، معرّضاً بشخصه، ليسلم السرد لزوجته عائشة التي تصفه بالطاهر، رغم زواجه عليها بامرأتين سافلتين بطريقة "المسيار" حسب تعبيرها، أولاهما دعوية شبقة وشاذة، والثانية أرملة، لفق لها تهمة صداقة ساحرة تسببت في عجزه الجنسي. وفيما يشبه الاستقصاء العيادي تستطرد في رواية حكايته كشاب يتيم غادر قريته التي تتوسط منطقة القصيم إلى الرياض، ليحقق حلمه الكبير كضابط أمن، لكن قصر قامته حال دون ذلك، ونتيجة تلك الخيبة اتجه إلى المخدرات، ودخل السجن حتى خرج منه متطهراً، لينضم إلى حلقة والدها القرآنية، ليتزوجها، وينتقلا فيما بعد إلى الرياض ليؤدي مهمة "الحسبة" على أكمل وجه، لكن زوجته (ف. س) " تمتلك حكاية مضادة عمن تسميه الزوج الشاذ المأفون، الذي أصابها بالجنون نتيجة ارتهانه للسحرة.
السائق البنغالي أيضاً قولزار شمس الحق تجتذبه الحكاية، ولا يطيق الصمت فيتحدث ليفضح عنصرية السعوديين، ويعرّي عائشة التي استغنت عن اسمها الأصلي عمشاء، فبعد أن يتلاعب به سماسرة العمالة الأجنبية، يستقر به المقام خادماً عند الشيخ بعد أن أقنع أهل الحي بحاجة المسجد إلى من يعتني بنظافته، وفي داخل ذلك البيت يتورط في علاقة محرّمة مع الزوجة قبل أن يهرب من البيت ويقبض عليه بتهمة السرقة.
وتكاد أن تنتهي الحكاية لولا أن شيخ الورّاقين يستأنفها باستعراض جملة من الآراء والتعليقات الاجتماعية المتباينة، ويغوص بالسرد في ضمائر الناس ومعتقداتهم وفي شوارع المدينة الخلفية، وهنا تتحول الرواية بمجملها إلى خطاب سجالي حول الجن والإنس والحلال والحرام، دون تحبيك، لتنهي الحكاية "عبير" بقتل الشيخ الهمام. عبير التي تنغلق أمامها كل أبواب الحياة الحرة الشريفة فتضطر إلى ممارسة البغاء في شقة وسط لجة من الحشيش الأفغاني بصحبته، حتى يقبض عليها بعد بلاغ من عميل للهيئة عامل النظافة، وهنا تنسدل الستارة على حكاية كبرى محشوة بحكايات صغيرة تتكامل لفضح بنية اجتماعية.
إنها رواية تمثل نقمة الذوات المتحررة وخيبتها. وهي أمثولة للوعي الليبرالي بمجريات اللحظة حيث يمكن من خلالها محاكمة هذا الوعي الذي اختزن كل معوّقات التقدم في شخص يمثل جهازاً قمعياً، دون تفكيك الشبكة التي نسجت ذلك الحصار الصارم، وهكذا تستدعى الرواية مرة أخرى كأداة حضور وتحاور، وكسلاح تعبيري للدفاع عن المقموعين، وتجيء في لحظة يحتدم فيها الجدل حول هيئة لم تعد فوق المساءلة، كما تدلل على ذلك مضامينها، والاسم المستعار الذي تقنّع به كاتب الرواية ليسلم من المواجهة اللا متكافئة، وصولاً إلى طريقة توزيعها عبر النت.

الاقصادية


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق