Translate


الأربعاء، نوفمبر 10، 2010

العرب والعروبة والعولمة



مسعود ضاهر

في زمن يستعيد فيه بعض الباحثين العرب أسئلة البديهيات، تتحول الندوات والمؤتمرات العربية إلى سجالات شكلية عقيمة لا تقدم الحد الأدنى من الحقائق العلمية المسندة إلى كثير من الوثائق المدونة، والوقائع الدامغة. كما أن بعض الخطب الأيديولوجية المكررة التي تضج بها القاعات لا يتجاوز صداها أسماع المشاركين فيها، ولا يصل تأثيرها إلى الأجيال الجديدة من الشباب العربي الذي يعيش حالة إحباط ثقافي على مختلف الجبهات السياسية والثقافية والاقتصادية والإيديولوجية وغيرها.
فما معنى أن تطرح أسئلة البديهيات حول عروبة العرب بعد قرابة قرنين من الزمن، وصدور أطنان من الدراسات التي ركزت على مشروع النهضة العربية الأولى التي أجهضت لأسباب داخلية وخارجية، وعشرات المشاريع النهضوية التي تؤكد جميعها على أن إمكانية النهوض العربي قائمة على أرض الواقع متوفرة في حال توفرت القيادة السياسية المتنورة، والحكم الصالح، ودولة القانون والمؤسسات؟
أشير هنا إلى حكمة أسداها أب لابنه حين قال: «يا بني، إذا وقعت في مصيبة، فليكن تفكيرك للخروج منها لا للبقاء فيها». لذلك حرصت ندوة «العروبة والمستقبل» التي عقدت في دمشق في الفترة ما بين 15 ـ 19 أيار 2010، على تقديم إجابات واضحة حول مشكلات العروبة في المرحلة الراهنة. ونبهت إلى أهمية دور المثقفين العرب في إبراز كل ما هو إيجابي في تراثهم العروبي ونقد الجانب السلبي فيه وصولاً إلى استنباط مقولات نهضوية جديدة تتلاءم مع طبيعة عصر العولمة. فالعروبة هوية تاريخية لا يمكن للشعوب العربية ان تنفصل عنها، ولا يمكن لشعوب العالم أن تنكر وجودها. وليس من حاجة إلى هذا السجال الصاخب لإثبات عروبة العرب طالما أن لديهم تاريخاً حافلاً بالأمجاد في مختلف مراحله، ولديهم تراث عربي اصيل، وهوية عربية، وثقافة عربية شمولية تفاعلت مع جميع الثقافات الإنسانية، قديمها وحديثها.
وعى العرب عروبتهم، وتحديداً في التاريخ الحديث والمعاصر، على خلفية نهضة فاعلة قوية انطلقت من داخل مصر، ثم تمددت نحو بلاد الشام، والجزيرة العربية، ووادي النيل، والمغرب العربي. لكن الوعي بالعروبة الحضارية بقي شديد التفاوت بين تلك المناطق العربية التي حافظت على خصوصيتها في بناء حداثتها، وفي موقفها من الانتماء العربي، ومن التراث العربي، والثقافة العربية. وبرزت تجليات الوعي بالعروبة ضمن ثلاث مستويات كبيرة:

المستوى الأول: عروبة الشعارات الوحدوية
وقد شكلت منطلقاً أساسياً لفهم دور العروبة الجامعة في تاريخ العرب الحديث. وعبر إبراهيم باشا أثناء قيادته للحملة على بلاد الشام عام 1831 عن الشعار الأول بقوله: «لن يقف جيشي إلا عند حدود الناطقين بلغة الضاد». فالوعي العروبي هو وعي ثقافي بالدرجة الأولى. والعروبة بهذا المعني النضالي ليست مجرد انتماء عرقي لتجمعات كبيرة من الناس بل تعبير عن انتماء طوعي لأمة حضارية ذات تراث إنساني ترك بصمات واضحة على بلاد العرب، والدول المجاورة وأوروبا وأفريقيا وصولاً إلى الصين. ثم برز شعار «تنبهوا واستفيقوا أيها العرب»، الذي دعا العرب إلى التمايز عن الأتراك العثمانيين والنضال ضدهم في ظروف ولادة الدولة القومية Nation ـ Etat على المستوى الكوني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وبرزت نخب ثقافية عربية تشدد على أن الرابط القومي الحضاري وليس الرابط العرقي أو الديني هو الجامع الأكثر فاعلية في بناء الدولة العصرية. ثم ارتفعت شعارات عدة أبرزها: «الدين لله والوطن للجميع»، و«بلاد العرب أوطاني..»، ونفط العرب للعرب»، و...
لكن العرب الذين تربوا على تلك الشعارات قد وعوا عروبتهم بشكل عاطفي كأمة حرة، ذات حضارة إنسانية، ولها مشاركة ثقافية معترف بها عالمياً. فتمسكوا بصفة العروبة الثقافية في جميع القضايا القومية المشتركة: فالجزائر عربية، وفلسطين عربية، والخليج العربي، والمغرب العربي، والمشرق العربي، والقدس عربية. وقد نجح الوعي بالعروبة في التحرر من السيطرة العثمانية الطويلة وبناء دول عربية حديثة. لكنه جاء تحرراً منقوصاً، إذ نقل العرب من هيمنة عثمانية إلى هيمنة أوروبية. وأدرك الوعي العروبي منذ وقت مبكر أن فلسطين هي حجر الزاوية في أي مشروع نهضوي عربي. فاشتد السجال الثقافي حول أولوية عروبة الذات الموروثة أم أولوية عروبة الانتماء المكتسب بالنضال التحرري. وهل أن العروبة هي عروبة نفعية تستخدم فقط لتحقيق مكاسب أو منافع خاصة أم عروبة الدفاع عن القضايا العربية الكبرى والاستعداد للتضحية في سبيلها.

المستوى الثاني: التأسيس للعروبة الثقافية أو الحضارية
كان لتمسك بعض الرواد الطليعيين بمقولات الثقافة العصرية الأوروبية ذات التوجه المدني أو العلماني، غير الإلحادي وليس الديني، الأثر الأكبر في بروز تعارض حاد بين عروبة الانتماء الموروث وعروبة المشروع التحديثي الليبرالي الديموقراطي الذي دعا رواده إلى تملك العرب لتاريخهم وحضارتهم وتراثهم تملكاً معرفياً نقدياً بهدف الاستفادة من دروسه وليس الحنين الرومانسي إلى استعادة مقولات الماضي الذهبي والتغني بأمجاده. وشهد تيار العروبة الثقافية ولادة مشاريع تأسيسية بالغة الأهمية منها:
أـ كتابات عبد الرحمن الكواكبي التي فضحت طبائع الاستبداد ودعت العرب إلى التمايز عن الأتراك العثمانيين، وإطلاق مشروعهم المستقل على قاعدة العروبة الجامعة.
ب ـ كتابات الشيخ عبد الله العلايلي، الذي نشر كتابه البالغ الأهمية: «دستور العرب القومي». وحاول الإجابة على السؤال الأساسي «اين الخطأ ؟»، فأبرز مكامن الخطل في ما تقوم به المؤسسات الدينية والسياسية من ممارسات خاطئة تسيء إلى الإسلام والعرب والعروبة.
ج ـ «الكتاب الأحمر» الذي أطلقه الدكتور قسطنطين زريق وأسس لولادة «جمعية العروة الوثقى»، وحركة القوميين العرب، ومجلة «الثأر» لمواجهة نكبة فلسطين. وقد حلل مراراً معنى النكبة القومية التي حلت بالعرب والعروبة.
د ـ كتاب عبد العزيز الدوري «التطور التاريخي للأمة العربية»، الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في طبعات عدة. وقدم الكثير من الأجوبة العلمية الدقيقة حول دور العرب قبل الإسلام، وعلاقة العروبة بالإسلام، والموقف من السلطنة العثمانية، وآفاق المشروع النهضوي العربي. وهو الكتاب الأكثر شمولية في موضوع العروبة الثقافية، ويشكل قاعدة صلبة لنهوض العرب على أساس مقولاتهم الحضارية.

المستوى الثالث:المشاريع الوحدوية على قاعدة العروبة الجامعة
وقد عبر عنها الرئيس جمال عبد الناصر أصدق تعبير من خلال الوحدات التي قام بها أو ساندها. فعمل على توسيع دائرة العروبة النضالية نحو الدائرة الإسلامية، ودائرة دول عدم الانحياز. لذلك شكلت هزيمة 1967 ضربة أليمة للتيار العروبي النضالي. فقد أفقدت العرب قيادة سياسية كارزمية فاعلة وقلّ نظيرها في بلاد العرب. كما ان خليفته، الرئيس السادات، قاد مصر في الاتجاه المعاكس على خلفية اتفاقيات كامب دافيد التي أضعفت التيار العروبي، ليس فقط في مصر بل أيضاً في دول المغرب العربي، ودول الخليج العربية.
نخلص إلى القول إن رواد العروبة انطلقوا من مناهج ثقافية متنوعة لكنهم اتفقوا على أن الإنسان العربي كائن حي يتم إعداده عاطفياً وثقافياً. فعلاقة الإنسان العربي بأرضه، وتاريخه، وثقافته، وتراثه مسألة ذاتية تنبع من الانتماء إلى حضارة عربية كونية وليست مستوحاة من تراث الغرب وثقافاته. وتبلورت مقولات العروبة الحضارية عبر التفاعل بين أجيال متعاقبة من الرواد العرب. واكتسبت مصداقيتها في بلاد العرب من خلال تعرية جذور الاستبداد، والتخلف، والتبعية، والدعوة إلى العدالة الاجتماعية، ورفض الظلم الاجتماعي. فساهمت في تعميق الوعي العقلاني بالتراث الإنساني لعروبة حضارية تسعى إلى بلورة عدد من المشاريع الثقافية وفق رؤية مستقبلية تدعو إلى إطلاق مشروع نهضوي جديد شديد الانفتاح على العلوم العصرية. وبدأ التيار العروبي الليبرالي يشق طريقه بصعوبة في المقاطعات العربية. وتمت مناقشة العلاقة الجدلية بين الدين والعلم، والدين والدولة على نطاق واسع. ويشعر عرب اليوم بضرورة ملحة لتجديد مقولات عروبة الوحدة الجامعة في عصر العولمة.
ما زال سؤال الحرية يحتل حيزاً واسعاً في كتابات دعاة العروبة الثقافية منذ بداية النهضة العربية. وقد أنتج الوعي بالعروبة الثقافية مقولات عقلانية على درجة عالية من التكامل، وهي الأكثر جدة في الفكر العربي الحديث والمعاصر. فحقق العرب بنضالهم التحرري قاعدة صلبة لتحويل الوعي القومي إلى دول وطنية مستقلة، لكن الحنين إلى بناء دولة الوحدة القومية على أسس ديموقراطية ما زال حلماً صعب المنال. لذلك أكدت مقولات العروبة الثقافية على أن التحدي الحضاري الذي يواجه العرب اليوم يتطلب الارتقاء بالوعي القومي إلى مستوى الرد الثقافي الحضاري الذي يضمن الحفاظ على كل ما هو إيجابي في تراث العرب الإنساني. وذلك يتطلب بلورة مقولات ثقافية تقاوم الاستعمار الجديد بكل أشكاله، خاصة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. فمقولات العروبة الثقافية أو الحضارية تشكل أبرز مكونات مشروع بناء الدولة العربية الحديثة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق