Translate


الأربعاء، نوفمبر 03، 2010

فطيرة التفاح


كتب: محمد العريمي


كنت بعيدا مع أفكاري وخيالاتي، كعادتي دائما، حين اقتحم حضورها الطاغي خلوتي واستغراقي! فعلى حين غرة رأيت جسدها الريان يمتشق الهواء .. منتصبة أمامي تشير بإصبعها إلى إشارة "ممنوع التدخين" فوق رأسي، وترمقني بنظرة من عينين بلون السماء أفسدت، إذ أسدلت رمشيها، حدتها.
لم أحرك ساكنا، غير أني انتظرت ريثما أصلحت جلستها على المقعد أمامي، قبل أن أضغطت شفتاي ونصف ابتسامة على عَقَب السيجارة، وأترك لعيني العنان تلتهمان الشفتين المكتنزتين، وآخذ نفس دخان عميقا وأنفثه مع ما تبقى من السيجارة إلى الخارج عبر نافذة قطار الليل. هي ابتسمت، وأنا اعتذرْت!
فضحت عيناي جموح غرائزي حين وقفت تعيد أوراقا تبعثرت بجانبها إلى حقيبة وضعتها على رف فوق رأسها .. عَلَقَتَا على جسد استقام كنصب من مرمر، وصدر مكتنز، واستدارة خصر زاده حزام جلد كلون عينيها فتنة وجمالا.
وأخفيت رغبتي خلف شبه مجاملة ظلت تراوح مكانها بين شفتيّ بحثا عن كلمات تصلح ما أفسدته عادة التدخين ونظرة تعذر عليّ كبحها. فقلت، في إشارة إلى كتاب طفقته بين يديها بعد أن وضعت إصبعها بين صفحاته: "العوسج لـ: فرجينيا سوارتز.. ما زال هناك من يهوى قراءة القصص الرومانسية!"، قلت ذلك وفي صوتي نبرة إعجاب تصنعتها تعويضا عن ما بدر مني!
وبلعت ريقي إذ انفرج مبسمها عن خميلة تدلت على اغصانها قناديل بلون الشمس ورهطا من حور الجنة، فجاء صوتها ناعما كخرير مياه ينبوع ينساب جذلا بين الصخور: "هل قرأت لها؟". سألت بحماس لم تبذل جهدا لإخفائه. قلت: "بعض رواياتها العاطفية .. ومن بينها هذه التي بين يديك!".
قالت: "أجمل قصصها وأكثرها رومانسية. قيل أنها كتبتها وهي على فراش الموت، ويقال أيضا أنها لم تكمل كتابتها". قلت: "في الموت قد تكمن الحياة"، بعد أن تأملت الجالسة أمامي: زينتها، تسريحة الشعر، وملابسها .. بحثا عن ما يختلف فيها عن سائر النساء اللاتي قابلتهن أو تعرفت عليهن خلال فترة وجودي في هذا المكان القصي من العالم، وما وجدت شيء!
وما لبثت أن اكتشفت، إذ ردت على تعليقي الأخير قائلة: "ككل الشرقيين.. أنبياء أو مجانين!"، أن رفيقة قطار الليل ليست فقط جسد كالمرمر، وعيون زرق واكتناز صدر واستدارة خصر وروايات عاطفية! وعقبت: "لا .. لسنا كلنا من صنف جبران!". فسألت: "من أي صنف إذا أنت؟". فأجبت بعد أن تذكرت لازمة ترددها مدرسة الفلسفة في الجامعة: "Its for you to find out"1. وأذابت، اذ ابتسمت، ما بقى في داخلي من وقار!
قلت أعرفها بنفسي: "أنا سيف". فأعادت نطق اسمي وبعض من دهشة على وجهها: "سيف!". قلت: “نعم سيف، وأنت ما اسمك؟". صمتت لحظات، والتفت إلى نفسها، وقالت: "لطالما تمنيت لو كان لي اسم غير تقليدي.. مختلف. لا يشبه الأسماء المبتذلة والمكررة تماما ككل شيء حولنا .. نسخ كربونية أفقدت الناس والأشياء تمايزهم واختلافاتهم!". وعلقت في سراي: "أجل، لكي يكون الاسم على مسي!".
ولمعت فكرة في رأسها .. طفحت بها نظرتها قبل الوجنتين: "ما رائك أن تسميني أنت؟". وأردفت سميني ما شئت؟" ثم استدركت: "أريد اسما شرقيا من زمن الأولين". ولم أطل التفكير، قلت: "سومر!".
ونظرت في عينيها الزرق ابحث عن إجابة سؤال لم أطرحه: "هل أعجبك؟". فعطرت بسمتها الندية الهواء، وهي تستفهم: "هل هي حبيبتك؟". أجبت: "لا"، وكدت أضيف: "ولكن طالما حلمت بحبيبة غير تقليدية عيونها زرق ولها اسم من زمن الأوليين!".
"اسم جميل ويناسب اسمي الأخير .. سومر مور. ورددت اسمها الجديد تماهيا عدة مرات: "سومر مور، الله.. سومر مور".
ناقشنا رواية الـ"عوسج"، واختفينا بـ"البعد الثالث" ـ الإصدار الجديد لـ”تومس هاملتون"، وترجمت لها شيئا من "عصفور النار"، وقرأت لي بصوت ملائكي شجي شيئا من أشعار طاغور، وأسمعتني بعض ما كتبت. وأطلعتها على سر الأسرار: وشم على كتفي: صورة “جيفارا” والنجمة الحمراء، وعزفت لها على الـ”عوتار” وغنيت:

مرّينه بيكم حمد، واحنه ابقطار الليل ..

واسمعنه دك اكهوه وشمينه ريحة هيل ..

يا ريل صِيح ابقهر .. صيحة عشك، يا ريل. (2)

تحدثنا في السياسة فاختلفنا، وتحدثا في الأدب فاتفقنا واختلفنا، وتكلمنا في الحب فاتفقنا، وأمضينا الطريق نتجاذب أطراف أحاديث شتى قبل أن يتوقف قطار الليل. وفي مقهى رصيف الانتظار جلسنا على مقعدين متقابلين. وسألتني:
ـ ماذا تأكل؟
قلت: أي شيء.
قالت: هل تعجبك فطائر التفاح؟
قلت: سمعت عنها، ورأيتها، لكن لم أتذوقها بعد!
ونظرت في عينيّ بخبث.
وولت سومر مور، ومعها، أخذت رموشي وابتسامتي، فلا كفت عيناي النظر إليها، ولا ملت ابتسامتي ملاحقتها طوال وقوفها أمام منضدة طلب الطعام. وعادت وفي يديها صينية عليها قطعتان من فطائر التفاح وكوبين من القهوة وفازة خزامية اللون يحتضن عنقها بعشق عود زهرة "قرنفل".
وقالت، وهي تذيب آخر قطعة من فطيرة التفاح في فمها: "ألذ فطائر التفاح على طول خط هذا القطار". وعلى قولها علقت: "وأنت ألذ فتاة على طول خطوط قطارات الدنيا". فابتسمت، وبانت في عينيها أنوثة بعبير المسك .. زادها تورد الخدين والخجل غنجا.
أمضينا ما تبقى من الوقت حتى منتصف الليل، نحتسي القهوة، ونسمع الموسيقى، ونسقي بذرة الحب همسا حينا، وبأعلى عقيرة الصوت أحيانا، ثم انتقلنا إلى الرصيف ننتظر قطار الفجر.
جلسنا على دكة الانتظار .. فرشت لها فخذي وسادة ولحفتها بكفيّ وأنفاسي، وأغمضتُ عينيّ على انتظام نبض قلب الحسناء النائمة على عروقي وتحت لهاثي. ولا ريب أنني أسلمت نفسي للأوهام والأحلام .. فحلقت فوق السحاب، وشربت من السراب، وبنيت قصورا على أجنحة الوهن، ونهضت على هدير قطار الفجر وحيدا إلا من بقايا طَعْم فطيرة التفاح على شفتيّ!
ركضت أبحث عنها: نظرت من خلف زجاج الباب إلى داخل المقهى المغلق، واختلط صوتي وأنا أسأل عنها بأصوات جلبة المسافرين والمشردين على أرصفة القطار وبقايا سكارى لفظتهم الخمارات وعلب الليل .. ولا أثر!
اختفت سومر، ورحل قطار الفجر يجر خلفه دخان متثاقل بلون الرماد، وأنا والوحدة من جديد .. تنهك روحي على رصيف الانتظار .. وحيدا، إلا من حزني وفرحة قاصرة صنعتها أوهامي وأحلامي، وخيبات أمل لا تحصى ولا تعد .. مصلوبا أمام حيرتي، وحسرتي. وارتباك نبض قلبي حين تذكرت آخر حديث بيننا، إذ قالت:
ـ سيف.
قلت: نعم.
سألت: ماذا يعني اسمك في لغتك؟”.
أجبت: “Sword”. وعلقت: “في لغتي أنت أمان وفي لغتك أنت جارح!”، وتساْءلت: “هل يستوي الاثنان “السيف والأمان” في واحد. وأردفت دون أن تنتظر ردا: “هل حقا الشرق شرق.. والغرب غرب، ولن يلتقيا قط؟!”.

_______
(1) ابحثي عن الجواب بنفسك.

(2) القصيدة للشاعر العراقي الكبير مظفر النواب




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق