Translate


السبت، ديسمبر 25، 2010

المستطرف


في العقل والذكاء والحمق وذمه وغير ذلك

قال أهل المعرفة والعلم: العقل جوهر مضيء خلقه الله عز وجل في الدماغ وجعل نوره في القلب يدرك به المعلومات بالوسائط والمحسوسات بالمشاهدة. واعلم أن العقل ينقسم إلى قسمين: قسم لا يقبل الزيادة والنقصان وقسم يقبلهما. فأما الأول فهو العقل الغريزي المشترك بين العقلاء. وأما الثاني فهو العقل التجريبي وهومكتسب وتحصل زيادته بكثرة التجارب والوقائع وباعتبار هذه الحالة يقال إن الشيخ أكمل عقلاً وأتم دراية وإن صاحب التجارب أكثر فهماً وأرجح معرفة.
كان جديراً برزانة العقل ورجاحة الدراية وقد يخص الله تعالى من يشاء من عباده فيفيض عليه من خزائن مواهبه رزانة عقل وزيادة معرفة تخرجه عن حد الاكتساب ويصير بها راجحاً على ذوي التجارب والآداب ويدل على ذلك قصة يحيى بن زكريا عليهما السلام فيما أخبر الله تعالى به في محكم كتابه العزيز حيث يقول (وآتيناه الحكم صبياً) مريم: 2. كما نقل في قصة سليمان بن داود عليهما السلام وهو صبي حيث رد حكم أبيه داود عليه السلام في أمر الغنم والحرث.
وشرح ذلك فيما نقله المفسرون أن رجلين دخلا على داود عليه السلام أحدهما صاحب غنم والآخر صاحب حرث. فقال أحدهما: إن هذا دخلت غنمه بالليل إلى حرثي فأهلكته وأكلته ولم تبق لي فيه شيئاً فقال داود عليه السلام: الغنم لصاحب الحرث عوضاً عن حرثه فلما خرجا من عنده مرا على سليمان عليه السلام وكان عمره إذ ذاك على ما نقله أئمة التفسير إحدى عشرة سنة فقال لهما: ما حكم بينكما الملك فذكرا له ذلك. فقال: غير هذا أرفق بالفريقين. فعادا إلى داود عليه السلام وقالا له ما قاله ولده سليمان عليه السلام فدعاه داود عليه السلام وقال له: ما هو الأرفق بالفريقين فقال سليمان: تسلم الغنم إلى صاحب الحرث. - وكان الحرث كرماً قد تدلت عناقيده في قول أكثر المفسرين - فيأخذ صاحب الكرم الأغنام يشرب لبنها وينتفع بدرها ونسلها ويسلم الكرم إلى صاحب الأغنام ليقوم به فإذا عاد الكرم إلى هيئته وصورته التي كان عليها ليلة دخلت الغنم إليه سلم صاحب الكرم الغنم إلى صاحبها وتسلم كرمه كما كان بعناقيده وصورته فقال له داود: القضاء كما قلت. وحكم به كما قال سليمان عليه السلام. وفي هذه القصة نزل قوله تعالى (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنئم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا أتينا حكماً وعلماً  (الأنبياء 78 79. فهذه المعرفة والدراية لم تحصل لسليمان بكثرة التجربة وطول المدة بل حصلت بعناية ربانيه وألطاف إلهية فأقول: يستدل على عقل الرجل بأمور متعددة منها: ميله إلى محاسن الأخلاق وإعراضه عن رذائل الأعمال ورغبته في إسداء صنائع المعروف وتجنبه ما يكسبه عاراً ويورثه سوء السمعة. وقد قيل لبعض الحكماء: بم يعرف عقل الرجل فقال: بقلة سقطه في الكلام وكثرة إصابته فيه. فقيل له: فإن كان غائباً فقال: بإحدى ثلاث إما برسوله وإما بكتابه وإما بهديته فإن رسوله قائم مقام نفسه وكتابه يصف نطق لسانه وهديته عنوان همته فبقدر ما يكون فيها من نقص يحكم به على صاحبها. وقيل: من أكبر الأشياء شهادة على عقل الرجل حسن مداراته للناس ويكفي أن حسن المداراة يشهد لصاحبه بتوفيق الله تعالى إياه. وقالوا: العاقل الذي يحسن المداراة مع أهل زمانه. قال علي بن عبيدة العقل ملك والخصال رعية فإذا ضعف عن القيام عليها وصل الخلل إليها. فسمعه أعرابي فقال: هذا كلام يقطر عسله. وقيل: بأيدي العقول تمسك أعنة النفوس وكل شيء إذا كثر رخص إلا العقل فإنه كلما كثرغلا. وقيل: لكل شيء غاية وحد والعقل لا غاية له ولا حد ولكن الناس يتفاوتون فيه تفاوت الأزهار في المروج. واختلف الحكماء في ماهيته فقال قوم: هو نور وضعه الله طبعاً وغريزة في القلب كالنور في العين. وهو يزيد وينقص ويذهب ويعود وكما يدرك بالبصر شواهد الأمور كذلك يدرك بنور القلب المحجوب والمستور وعمى القلب كعمى البصر. قال الله تعالى (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) الحج: 46. وقيل محل العقل الدماغ وهو قول أبو حنيفة رحمه الله تعالى. وذهب جماعة إلى أنه في القلب كما روي عن الشافعي رحمه الله تعالى واستدلوا بقوله تعالى (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) الحج: 46. وبقوله تعالى (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) ق: 37. أي عقل وقالوا: التجربة مرآة العقل ولذلك حمدت آراء المشايخ حتى قالوا: المشايخ أشجار الوقار لا يطيش لهم سهم ولا يسقط لهم فهم وعليكم بآراء الشيوخ فإنهم إن عدموا ذكاء الطبع فقد أفادتهم الأيام حيلة وتجربة.
وقالوا: العاقل لا تبطره المنزلة السنية كالجبل لا يزعزع وإن اشتدت عليه الريح والجاهل تبطره أنى منزلة كالحشيش يحركه أدنى ريح. وقيل لعلي رضي الله عنه: صف لنا العاقل قال: هوالذي يضع الشيء مواضعه. قيل: فصف لنا الجاهل قال: قد فعلت. يعني الذي لا يضع الشيء مواضعه. وقال المنصور لولده: خذ عني ثنتين: لا تقل من غير تفكير ولا تعمل بغير تدبير. وقال أردشير: أربعة تحتاج إلى أربعة: الحسب إلى الأدب والسرور إلى الأمن والقرابة إلى المودة والعقل إلى التجربة. وقال كسرى أنوشروان: أربعة تؤدي إلى أربعة: العقل إلى الرياسة والرأي إلى السياسة واعلم إلى التصدير والحلم إلى التوقير. وقال القاسم بن محمد: من لم يكن عقله أغلب الخصال عليه كان حتفه من أغلب الخصال عليه. وقيل: أفضل العقل معرفة العاقل بنفسه. وقيل: ثلاثة هن رأس العقل: مداراة الناس والاقتصاد في المعيشة والتحبب إلى الناس. وقيل: من أعجب برأي نفسه بطل رأيه ومن ترك الاستماع من ذوي العقول مات عقله. وعن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه أنه قال: أهل مصر أعقل الناس صغاراً وأرحمهم كباراً. وقيل: العاقل المحروم خير من الأحمق المرزوق. وقيل: لا ينبغي للعاقل أن يمدح امرأة حتى تموت ولا طعاماً حتى يستمرئه ولا يثق بخليل حتى يستقرضه وقيل: طول اللحية أمان من العقل. وسئل بعضهم: أيما أحمد في الصبا الحياء أم الخوف قال: الحياء لأن الحياء يدل على العقل والخوف يدل على الخبن. وقيل: غضب العاقل على فعله وغضب الجاهل على قوله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق