Translate


الاثنين، ديسمبر 13، 2010

مطار شارل ديغول - باريس

الكاتبة: نجوى بركات - لبنان

يا إلهي كم أكره المطارات !
الحقيقة، أنا لا أحبّ السفر. حياءً، كنتُ أمثل وأدّعي أني من محبّي الترحال، اكتشاف أمكنة جديدة، التعرّف إلى بقاع وثقافات وشعوب أخرى. لو لم ترفسني الحربُ في مؤخرتي لما خرجت، لما غادرت بيروت إلى باريس...
ما عدتُ أذكر بالضبط متى جاءني هذا الكشفُ فرأيتُ كما يرى الرائي في لحظة تجلٍّ، أني لستّ من أهل التجوّل والتجوال. وقد احتاجني الأمر شجاعة لا توصف لكي أتقبّل في نفسي علّتَها هذه، وشجاعة أخرى أكبر منها لكي أجرؤ ذات يوم على الاعتراف بإعاقتي تلك أمام آخرين، فأجاهر بأن السفر ليس هواية لديّ.

الواقع، باستطاعتي الجلوس في مكانٍ بعينه، إذا خاطب قلبي، إذا أنست إليه روحي، مئات السنين. هذا ربما لأني لا أرى من الأمكنة سوى ما يروق لي من التفاصيل. ما يزعجني، أمحوه بسهولة عجيبة، أسهو عنه، أحيّده فيختفي من أمام ناظري. أحفر أنفاقا وهمية، أشيّد ديكورات وهمية، وأسير حيث لا يسير الناس، أرى ما لا يراه الآخرون. لو قمت بعملية حسابية لقلتُ إن نصف حياتي على الأقل مضى وأنا في حالة غياب.

في طفولتي ـ تروي أمّي ـ كنت أمضي ساعات طوال أمام المرآة أخاطب شخصا فيها. ثم غادرتُ المرآة إلى زاوية بين كنبتين في الدار، أختفي فيها إلى أن يفتقدوني فينادون عليّ لأخرج من جحري وأعودَ إلى الحياة. وحين صار ممنوعا عليّ الاختفاء، رحتُ أجلس إلى النافذة أتأمّل أنتينات التلفزيونات التي كانت تنبت بفوضى عجيبة على سطوح البنايات المجاورة، أتنقل فوقها كي أقفز منها إلى السماء... اليوم، أقصى أمنيتي هو أن أشيخ أمام نافذة تطلّ على البعيد، على مدىً مأهول بخضرة شاسعة تحملني إلى الموت بهدوء، أو تحمل الموتَ إليّ بغبطة من جاء لاصطحاب صديق عزيز...

هذا لا يعني أني لا أسافر، بل أني، وبالتحديد مؤخرا، صرتُ كلما دخلت مطارا، شعرتُ بندم عظيم تبعه سؤالٌ يتردد صداه في جنبات نفسي إلى ما لا نهاية: ما حاجتكِ إلى السفر وأنتِ تسافرين في رأسك ما طاب لك ؟ ولأني أعرف خطرَ الاستغراق في مثل تلك الأفكار، تراني أحارب ذاتي وأجبرها على الخروج والتنقل من حين إلى حين. أقول لها سافري، فالسفر يفتح العقول، يوسّع الرئتين، يعمّق النظر. سافري وتفاءلي، فهذا هو ملحُ الحياة ! وإن عاندتْ ومانعتْ وأصرّتْ، شهرتُ سلاحي في الدمار الشامل وقلتُ لها بلؤم قاتلٍ لئيم : ألستِ تعلمين أن كاره السفر والترحال والاكتشاف في عصر العولمة هذا، هو كاره للحداثة، للتنوّع الثقافي، لفكرة القرية الكونية، لمبدأ المواطنة في العالم، لمساواة الأجناس والأعراق، كاره للأجانب والأغراب والسود والعرب واليهود والـ... ؟

هكذا أراني، من حين إلى حين، أحيا وأتصرّف كالآخرين. أوضّب حقيبتي، أقطع تذكرة سفر أو أقبل دعوة إلى مؤتمر أدبي. إلى أن ألج مبنى المطارَ، إلى أن يحضرني "بسّوا" قادما من البرتغال خصيصا لأجلي. إلى أن يغمزني بعينه تحت قبعته الرمادية، يميل برأسه فوق قامته الفارعة النحيلة مبتسما، عاتبا، كأنما يقول لي: إلى أين ؟ قومي، هيا بنا نعود !

نجوى ! أنهر ذاتي مقطبة الجبين. إنسي بسّوا والتفتي إلى الآخرين ! أنظري كم هم سعداء وقد ارتدوا ثياب الأحد وكأنهم مقبلين على أجمل الأعياد ! ما زال أمامنا ساعة ونطير، ستون دقيقة وتدخلين الطائرة وتنتهي كل هذه الأفكار. لن تفعلي بي الفعلة نفسها مرتين. لن تعودي من المطار كما فعلتِ ذات مرة بعد أن أعددتِ مداخلتك وودّعتِ أصدقاءك. لا تقولي لي إنه ذنب الموظفة التي تلكّأت في منحك بطاقة السفر. خمس دقائق، هل تسمّين هذا تلكؤا ! كان السينمائي "م. س." واقفا بجانبك.رآكِ تتراجعين. لم يصدّق. لم يفهم. ظنّها نكتة. إلى أن ودّعته طالبة منه الاعتذار من المنظّمين... تذكري أنك التزمتِ مع أهل فرنكفورت ومع أهل غوته، وأنك ابنة أصل وصاحبة أخلاق ! ثم أنك هناك للكتابة، وباستطاعتك البقاء وحيدة ما شئت... هيا، أغلقي هذا الدفتر اللعين وتذكّري التفاؤل ! إبتسمي وقومي بنا نتفرّج على واجهات المحلات في هذا المطار القبيح...

لا أحب الأمكنة بشكل عام، وإن أحببتُ بعضَها فلأنه من النوع الذي يسمح لي بالغياب، بالذوبان فيه، بالتبخّر والاختفاء. مَنْ كان على ضفّة الحياة، لا تعنيه الأمكنة كثيرا، لأنها، مهما تنوّعت واختلفت وتباينت، تبقى بالنسبة إليه، هو الجالسٌ على الضفة أبدا، المقيم على تخوم الهامش حتى القيامة، واحدة... لا أدري من أين يأتي كسلي هذا أو ما يخفيه. لا أدري إن كان كسلا أم خوفا، أقصد الخوفَ العاطفي من التعلّق بالأشياء. لذا تراني ربما أهرب أكثر مما أسافر، والمعنى أني ارى السفرَ مغادرةً لمكان أكثر منه توجّها إلى آخر...

يخرج صوت "مذيعة المطار" من مكبّرات الصوت: يرجى من السيدة "ن.ب." التوجه فورا إلى الطائرة... تركض "ن.ب." داخل الأنابيب الزجاجية العملاقة المعلّقة في الهواء ويكاد قلبها يقفز من صدرها رغبة باستباقها قبل فوات الأوان !

"لوفتانزا" - في الطريق إلى فرنكفورت

أوّل ما لاحظته لدى دخولي الطائرة، لاهثةً سابحةً في عرقي، هو المقاعد الرمادية الجلدية (برافو لوفتانزا) وما عليها، أي الركّاب. أقسم بالعليّ العظيم أنها ليست نكتة وأني لست أبالغ حين أقول إن 90 % منهم على الأقل كانوا آسيويين (أنتِ من آسيا أيضا، لا؟). آسيويون من الشرق الأقصى كي لا أقول من اليابان، ذلك أنه غالبا ما يصعب عليّ التمييز بين الكوريين مثلا واليابانيين. وخطر لي فيما أنا أعبر أسراب الركاب أنهم مجموعة متجانسة أو ما يشبه وفدا، غير أن ظني جاء في غير محله إذ لحظت من ثم أنهم قّلما تخاطبوا أو بدت عليهم أماراتُ ألفة ومودّة وسابق معرفة. ها أنذا إذاً في باص، أعني في طائرة، متوجهةً مع رفاقي من أهل اليابان إلى المدينة نفسها، فما عساها تحويه فرنكفورت هذه مّما يجمعنا على اختلافنا أو يهمّنا، أنا وهم ؟

صوت المضيفة يلغو بالألمانية والفرنسية والإنكليزية. الركاب يتحدثون بلغاتهم المتنوّعة(هنالك 10 % ممن أجهل جنسياتهم مع تقديري أن يكون 7 % منهم ألمان). وأنا أفكّر بالعربية (أعتقد أني الوحيدة). حمداً لله أن التكنولوجيا لم تتوصل بعد إلى قراءة الأفكار، وإلا لكنتُ الآن حتما موضع شبهة أو استغراب أو استنكار: عربية، في طائرة يابانية (!)، وفي هذه الأيام ؟ لا هذا كثيرٌ مما يفوق كل احتمال !

تضحك المرأة التي بجانبي. المقعد الذي بيننا فارغ ـ يا لحظي الرائع أنا التي تكره حتى الموت احتكاك الأجساد بين غرباء ـ وضعتُ فيه حقيبة يدي، سترتي وشالي الأخضر الصغير. أرتديتُ أخضر اليوم. أجل، أخضر للتفاؤل. وأخضر كي يحلو المشوار. تلتفت المرأة إليٌ مجددا. ما زالت تضحك. ما الذي يضحكها هكذا ؟ هنالك ابتسامات تخيفني، ضحك يصيبني بالهلع... عيناها زرقاوان. يكفي أن يكون هناك فراغ صغير بين سنيّها الأماميين لكي تكون ممن يُصيبون بالعين. هذا مايعتبره الناس عندنا دليلا قاطعا على "عين حاسدة شريرة" : "عيون زرق وسنان فرق" ! علامَ تراها تحسدني وهل فيّ ما يستحقّ حسدا ؟ في يدها كتاب. تقرأ وتبتسم وتلتفت إليّ. مثلي أخرجت ورقة وراحت تكتب. هل تعلم أني أكتب عنها وأنها للحظة أخافتني ؟

ها نحن نطير على ارتفاع لا يبدو أنه سيزداد، ارتفاع يبقينا على مقربة من الأرض. أعتقد أنه قصر المسافة: ساعة وعشرون دقيقة ما بين فرنكفورت وباريس. إنها المرة الأولى التي أطير فيها على هذا العلوّ "الإنساني"، والأرض تمضي في الأسفل مفروشة بلوحة تكعيبية عملاقة. أحشر وجهي في زجاج الكوة الصغيرة. يكفي أن أغلق عينيّ قليلا حتى يختفي الإطارُ مع تفاصيل أخرى في الطائرة وحتى يتبدّى لي أني في كرسي طافٍ في السماء وأنا عليه أنظر من عليائي إلى الأرض. كالربّ !

أفكّر أني والأرض ـ في تنوّعات الأخضر على اختلافها يجاورها القرميدي والأصفر الترابي والقمحيّ ـ نليق ببعضنا، وأنهم لو ألقوني الآن من الطائرة، لاندمجتُ تماما في ألوان الطبيعة... تلك هي لعبة التمويه... أقول هذا فإذا بالأرض تكتسي فجأة قماشا مرقّطا كذاك الذي تُصنع منه ثياب أهل الظلمة، أعني بذلات المقاتلين...
ألبط هذه الفكرة ـ تفاؤلا ـ وأميل برأسي يمينا وقد أتت المضيفة الشقراء لنجدتي وهي تسألني بعينيها الزرقاوين: كوفي أور تي ؟

في الأسفل، نهر صغير يتعرّج ويتلوّى كجسد ثعبان، أو كعود فحم تجرّه يدُ طفلٍ على الورق أمام عتبة بيت يعلوه قرميد وتحيط به أشجار. هكذا يرسم الأطفال بيوتهم، حتى ولو كانوا من سكّان الأكواخ أو من المتشرّدين ونزلاء الأرصفة... وذاك رأس حصان مقطوع مقلوب على قفاه... ياه، يد ! لكن، اين الذراع... ها أنا أرى "غرنيكا" عملاقة مبعثرة على الأرض... ألا تكون فكرة هذه اللوحة قد جاءت بيكاسو ذات يوم في الطائرة، وهو في لحظة شوق مُحرِقة إلى بلاد مستحيلة، إلى وطنٍ بعيد ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق