بقلم: هيفاء
بيطار
استقبلني الطبيب بابتسامة مشجعة ، أخذّ نفسا عميقا
، شمٌّر قليلا عن أكمامه كمن يُعلمني أنه يوليني كامل اهتمامه . كبحت رغبتي بالضحك
إذ تخيلت كم سأفاجئه بطلبي ، بالتأكيد يظنني مريضة . أحسست فجأة باضطراب شديد إذ
نسيت المقدمة التي تدرٌبت عليها مرارا لبدء حديثي معه . لعله لاحظ ارتباكي
فابتدرني قائلا : أرجو أن تثقي بي ثقة مطلقة و أن تعتبرينني صديقا يفهمك ويساعدك ،
لا ترتبكي ولا تخجلي فالمرض النسائي مثله مثل أي مرض.
كنت أعرف أنه طبيب أمراض
النساء الأكثر شهرة في المدينة وبأنه يتمتع بأخلاق مهنية عالية ، عقصت شعري بملقط
أخرجته من حقيبتي كعادتي دوما لشحذ تفكيري ، بدا وجهي مقروءا وصريحا في حضرة
الطبيب . وضعت رجلا علي رجل كي أوهمه أني مسترخية ولست خائفة . قلت له منتبهة
للهجة صوتي الغريبة عني : في الواقع أنا لا أشكو من أي مرض نسائي ، إنما قصدتك
لسبب آخر . قال مبتسما ابتسامة مشجعة : مهما كان السبب فأنا سأدعمك وأساعدك بكل
طاقتي . أشكرك ، قلبي حدثني منذ البداية أنك لن تخيٌب ظني وأنني سأجد مرادي عندك.استأذنني
ليشعل سيجارة قائلا : كلي إصغاء لك .ياه ... كيف نسيت السيناريو الذي حضٌرته ،
اللعنة علي ذاكرتي كم صارت تخذلني ، لكني استجمعت شجاعتي المتهورة وقررت أن أقذف
دفعة واحدة بالكلام الذي حاولت تزويقه . أريد أن تجري لي عملية الختان . جمدٌته
جرأتي ، حلٌّ بيننا صمت م كهرب ، استدارت عيناه دهشة ، حدٌّقّ بي متشككا بما سمعه
، ابتسمت ، قلت له : لم تخطئ في فهم ما أرمي إليه .. أقولها مرة ثانية ، أريد أن أ
جري عملية الختان . سّحّب نفسا عميقا من سيجارته وقال وهو يتفحصني كأنه يبحث عن
بذرة اضطراب عقلي : منذ ثلاثين عاما أمارس عملي كطبيب أمراض نساء ولم يسبق أن طلبت
امرأة هذا الطلب ؟ وافقته مؤكدة : أعترف أنه طلب غريب . هل لي أن أعرف أسبابه ؟
أتمني لو تعفيني من حديث موجع . لكني لست آلة ، أؤمر بكذا فأنفٌذ ! .. أنا طبيب
ومهنتي إنسانية قبل أي اعتبار ، إن شابة مثلك في عقدها الثالث ، متعلمة وناجحة في
عملها ، جميلة و.... قاطعته : أعرف ما ستقول .. أنتّ تري طلبي غير معقول أليس كذلك
؟.. لعلك تظن أني مجنونة . أبدا ، أبدا ، لكن أتمني لو نتحاور حول هذا الطلب
اللاإنساني ، هذا الطلب .. أقصد الخِتان الذي لن يشوهك جسديا فحسب ، بل نفسيا ، ثم
أظنك قرأت عن الآثار النفسية المؤلمة بل والكارثية لعمليات ختان الفتيات . كيف
يعشن عمرهن بكآبة وألم و لا يشعرن بأية متعة علي الإطلاق ... تلك المتعة التي هي
مادة الحب ، وأصل التواصل بين المرأة والرجل . التقطت طرف الخيط ، فدٌبت في
الحماسة ، قلت له : أشكرك علي كلامك ، فأنا أعرفه واسمح لي أن أ كمل ما قلته لكن
باتجاه آخر ، فحين تنعدم إمكانية الحب بين رجل وامرأة ، حين تتحول الحياة إلي
انتظار طويل منهك للأعصاب ، لحبي لن يتحقق وأرجو ألا تسألني لماذا ؟ لأن الحياة
معقدة وسريعة كدولاب يدور ويدور ، يطعن العواطف الرقيقة و لاتبقي إلا العواطف ،
أقصد الغرائز الفظٌة كالحصي الباردة ، كنت أحس بألم وأنا أشرح ما بنفسي ، لكنني
أعرف أن عليٌ إقناع الطبيب كي يختنني . قال: الحب ، ليس له عمر معين ، وأنتِ لا
تزالين شابة . استأذنته بتدخين سيجارة محاولة أن أقنعه :حاول أن تفهمني ، أرجوك ...
رغم أن كلامي يبدو أغرب من أن تستوعبه ، لا لشيء سوي لأنه غير مألوف ، لقد تعبت من
حالتي ، من حالة التوق للحب ، لحب إنساني صادق منزٌه عن الأغراض ، لم يحصل ، وأعرف
أنه لن يتحقق ، لقد عشت سنوات طويلة مسرفة في الانقياد لعواطف الحب والحنان ، لكني
لم أجنِ سوي الوحدة العميقة الأشبه بالصقيع ، لا تنظر إليٌ بهذه الطريقة أرجوك ،
لكأنك تقول لي أنه حين يكون في رأس المرأة أفكار كهذه فمن العار أن تعلنها ، أنا
تعيسة رغم نجاحي في عملي ، تعيسة لأني أربط سعادتي وانسجامي النفسي والعاطفي بالحب
.. بالرجل الحلم . أتعرف صار توقي الشديد للحب حِملا لا فائدة منه ، إنه ي شعرني
أني ميتة و أنا لا أزال حية ، ي شعرني أن شبابي ي هدر لأني لا أذوب بين أحضان رجل
يحبني لذاتي ولست بالنسبة له شهوة عابرة . اقرأ السؤال في عينيك : كيف لم تلتقِ
برجل حياتك ؟ أقول لكّ : أنا نفسي لا أعرف ، لعله الحظ كما ي قال وأظنك تعرف أن
هنالك آلاف من النساء الوحيدات مثلي و المتلهفات للحب . ياه ... لو تعرف كيف أن
مزاجي الحزين والكئيب في غياب الحب يصيبني بداء غريب هو داء الخّرس ، إذ أظل أياما
لا أنطق بكلمة منطوية علي ذاتي وحزينة ... لم أترك للطبيب فرصة السؤال أو
الاستيضاح ... كنت أستبق أسئلته من شدة استعجالي للبوح. أتدهشكّ شجاعتي ، معك حق ،
فالحزن يبث في النفس الشجاعة ، لقد مللت من انتظار الحب الذي به تتحقق أنوثتي
وشخصيتي ... أتعرف أن الشجاعة والحزن صفتان متلازمتان ؟ قاطعني رغما عني : لكنك يا
سيدتي ، لا تزالين شابة والفرص أمامك كثيرة . الفرص!... هذا هو وجعي ، الانتظار
والحلم ... لقد تعبت من انتظار الفرص ، من التوق للحب ، فحين أسافر في رحلة أحس
بوخز ألم كوني وحيدة و حين ألبس ثيابا جميلة أحس بغصٌة ، إذ لا يوجد رجل حميم
يحبني و ي طريني . وكل يوم أتناول طعامي وحيدة متخيلة طيف رجل ... و في الليل ،
الليل حالة خاصة لأنه يجسٌد لي وحدتي ، أتعرف صرت أندهش حين أتفرج علي لقطات
غرامية في الأفلام ، لكأن هؤلاء بشر من طينة أخري لا أنتمي إليها .إلي متي سأعيش
أقرأ عن الحب أو أشاهده ، إنما لا أعيشه ، وكل مساء أتدثٌر بغطاء بارد لا يحمل سوي
رائحة وحدتي .أدركت أن الطبيب يداري تأثره ، لكن في عينيه تعاطف شديد معي ، ربما
صراحتي الخارقة وصدقي الغريب قد صدماه ، بدا م فلسا لا يعرف كيف يرد علي . أخذت
نفسا عميقا ، حلٌّ بيننا صمت مترقب ، تابعت كلامي . أرجوك أيها الطبيب ، لا تخذلني
، حين سأجري عملية الختان سأرتاح من أكثر شيء يعذب الإنسان الأمل ... الأمل أو
السراب لا فرق ستريحني من ألف تنٌهدة وحسرة كل يوم علي رجلي أتمناه و لا يوجد ،
عندها أقصد بعد العملية سأكون سعيدة تماما وقد تحررت من وجع الغريزة ومن توق الحب
وسأستمتع بما تقدمه لي الحياة من مباهج ، سأكون مكتفية بذاتي وسأعود لبساطة الخلق
الأولي ... كائن لا جنسي .لكن ، ألم تعيشي تجارب عاطفية من قبل ؟... فلِمّ أنتِ
يائسة من احتمال تكرارها. ضحكت من قلبي ، أجل عشت تجارب ممسوخة وقصيرة العمر ، ألا
تعرف يا دكتور أن الفرح سطحي و أن المرارة تترك وشما عميقا في الذاكرة فأرجو أن
تعفيني من تفاصيل تجاربي ، صدقني أنا مصممة علي العملية . ابتسم الطبيب بمرارة : كم
يحزنني أن هذه الرغبة طالعة من أعماقك . غامت نظرة الطبيب ، أحسست أنه لم يعد
يراني ، انتفضّ عن كرسيه كما لو أن فكرة مرعبة قذفته من مكانه ، اقترب مني وسألني
بقلق كأنه يحدٌث نفسه :هل لديك صديقات يرغبن بإجراء هذه العملية ؟ كان ذعره يتكاثر
كدوائر تتوالد من نقطة ... أجبته بابتسامة ، احتار كيف يفسرها ... في عينيٌ تصميم
و في عينيه ذهول ... وبين ذهوله وتصميمي لّمّحنا طيف آلاف النساء الراغبات
بالخِتان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق